ما يجمع ضفتي حوض المتوسط أكثر بكثير مما يفرقهما

الجميع ضحايا الإرهاب الأعمى، الذي قتل في أوروبا المئات وفي العالم العربي عشرات الآلاف. لكن في البلدان العربية توجد أيضاً أشياء أخرى غير الإرهاب والعنف. فكثيرون هناك يدافعون في ظل ظروف صعبة وأنظمة دكتاتورية رهيبة عن الحريات ويناضلون من أجل حياة كريمة. الباحث الألماني المصري عبد العظيم الدفراوي يلفت نظر الغرب الذي يعيش فيه إلى فخ استقطاب يغذيه شعبويون غربيون وجهاديون إسلامويون، ويسلط الضوء في تحليله التالي لموقع قنطرة على عصارة أبحاثه حول مكافحة الظاهرة الجهادية.

الكاتب، الكاتبة : Asiem El Difraoui

فشل قوَّات الأمن، وخطر اللاجئين والمهاجرين، والدعوة إلى قوانين أكثر تشدُّدًا لمكافحة الإرهاب: موضوعات هيمنت أيضًا على النقاش العام في ألمانيا بعد الهجوم المروِّع على أحد أسواق عيد الميلاد في ساحة برايتشايد في العاصمة الألمانية برلين، مثلما كانت الحال بعد الهجمات الإرهابية في شهر تمُّوز/يوليو 2016 وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015 هنا في باريس، حيث أعيش. ما من شكِّ في أنَّ طرح هذه الموضوعات للنقاش يُعَدُّ أمرًا مشروعًا وجزءًا من نقاش عام ضروري. ولكن هذا النقاش يبقى سطحيًا في قضايا مكافحة الجهادية.

 إنَّ ما لا يتم طرحه على الإطلاق تقريبًا من قبل السياسيين ومن النادر تناوله في وسائل الإعلام هو حقيقة أنَّ مواجهتنا مع الفكر الجهادي سوف تستمر عقودًا من الزمن.

 لقد نشر زميلي النرويجي توماس هيغهامر قبل فترة قصيرة مقالاً خطيرًا للغاية في المجلة الاختصاصية "وجهات نظر حول الإرهاب". وعنوان هذا المقال هو: "مستقبل الجهادية في أوروبا - نظرة متشائمة"

 وتوماس هيغهامر، الذي يُعْتَبر من أكثر الخبراء المختصين في شؤون الجهادية المعروفين عالميًا، يذكُر أربعة أسباب رئيسية أو بصيغة أفضل أربعة اتِّجاهات تُوَضِّح لماذا سيغزو الإرهاب الجهادي أوروبا لعدة عقود.

 أولاً: زيادة في عدد الشباب المسلمين المحرومين اقتصاديًا.

 ثانيًا: زيادة بسبب العائدين من سوريا والعراق في عدد المهاجمين المحتملين والمجنَّدين ذوي الكاريزما.

 ثالثًا: استمرار النزاعات في العالم العربي.

 رابعًا: استمرار حرِّية عمل الجهات الجهادية السرية على شبكة الإنترنت.

Bericht des Hessischen Verfassungsschutzes zum Dschihadismus in Deutschland; Foto: dpa/picture-alliance
Dschihadismus als Langzeitphänomen: "Um den Terror wirkungsvoll zu bekämpfen, müssen unsere Politiker ganz klar öffentlich eingestehen, dass die Konfrontation mit dem Dschihadismus noch Jahrzehnte dauern wird und dass sich das Übel nur besiegen lässt, wenn all seine Wurzeln bekämpft werden, die ideologischen, die gesellschaftlichen und die sozioökonomischen", schreibt Asiem El Difraoui.

عندما يتحدَّث هذا الباحث في معهد وزارة الدفاع النرويجية حول الزيادة في عدد الشباب المسلمين المحرومين اقتصاديًا، فهو لا يُحمِّل المسؤولية عن ذلك فقط لتزايد عدد المهاجرين، بل أيضًا لارتفاع معدَّل المواليد وكذلك للتمييز الاجتماعي والاقتصادي.

 وأنا شخصيًا تحدَّثتُ في العقود الأخيرة في أوروبا وفي العالم العربي مع العشرات من الجهاديين. ولفترة طويلة كنت أنظر إلى أيديولوجية الإرهاب على أنَّها ظاهرة هامشية، صحيح أنَّها خطيرة، ولكنها ظاهرة يمكن السيطرة عليها بسرعة نسبيًا، وحتى بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.

 ولكن منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 ونتائجه، أصبحتُ ببطء على قناعة بأنَّ المواجهة مع الجهاديين سوف تشمل أجيالاً أيضًا. وبالنسبة لي تُضاف إلى الأسباب المذكورة من قبل هيغهامر ثلاثةُ أسباب أخرى على الأقل:

 أولاً: انتشار معاداة الثقافة والإيديولوجية الجهاديتين، خاصة بين الشباب الأوروبيين منذ الغزو الأمريكي للعراق.

 ثانيًا: عدم وجود سياسة أوروبية موحَّدة تجاه الأنظمة الدكتاتورية العربية، التي خلقت أولاً الأرض الخصبة للفكر الجهادي.

 وأعني بذلك مثلاً نظام الأسد، ولكن أيضًا وقبل كلِّ شيء شريكاتنا الاقتصادية المملكة العربية السعودية: لقد خلق السعوديون الأرض الفكرية الخصبة للجهادية من خلال الدعوة - التي قوبلت بالتسامح لفترة طويلة في جميع أنحاء العالم، وبالتالي في أوروبا أيضًا، إلى عقيدة دولتهم الوهابية.

 ثالثًا: تنامي الاستقطاب المزدوج - من جهة استقطاب مجتمعاتنا بالشعبوية اليمينية المتصاعدة، التي تدفع من خلال معاداتها للإسلام بالمزيد من ذوي النفوس المضطربة إلى أحضان المضلِّلين المروِّجين للجهاد المزعوم. وبطبيعة الحال هذا هو بالضبط هدف الهجمات في أوروبا. فمن ناحية أخرى الجهاديون يريدون أيضًا دفع الاستقطاب إلى الأمام بين أوروبا وجيرانها الجنوبيين على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسِّط. وهدفهم هو إثارة "صراع الحضارات" من أجل التمكُّن من ترويج كذبهم الذي يفيد بأنَّهم هم المدافعون عن الإسلام.

 ومن أجل محاربة الإرهاب بشكل فعَّال يجب على سياسيِّينا أن يعترفوا وبشكل واضح وعلني بأنَّ المواجهة مع الجهادية سوف تستمر لعقود من الزمن وأنَّ هذا الشر لا يمكن هزيمته إلاَّ عندما تتم مكافحة جميع جذوره - الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية الاجتماعية.

صورة عن موقع ذي ديلي بوست لأحد مقالاته عن الجهاديين تحت عنوان: "داعش ينتصر على الغرب في جهاد الإنترنت"
صورة عن موقع ذي ديلي بوست لأحد مقالاته عن الجهاديين تحت عنوان: "داعش ينتصر على الغرب في جهاد الإنترنت"

وهنا يعتبر التدمير العسكري لخلافة "داعش" الهمجية ضروريًا تمامًا مثل ضرورة إيجاد سياسة أمنية أوروبية أفضل ومُنسَّقة فعلاً - فتقريبًا جميع القتلة الإرهابيين في بروكسل وباريس وبرلين أقاموا في العديد من الدول الأوروبية، وكان بعضهم معروفين كمهاجمين محتملين. ولكن مع ذلك فإنَّ هذا لا يكفي على الإطلاق.

فصحيح أنَّ أسامة بن لادن قد مات منذ عدة أعوام، وأنَّ خليفة الإرهاب ربما سوف يتم قتله أيضًا في يوم ما، بيد أنَّ الفكر الجهادي السام سوف يستمر. ولذلك فإنَّ الصراع الإيديولوجي مع الجهادية والرد عليها يحظى بقدر كبير من الأهمية.

 وهنا لا يتعلق الأمر فقط بدحض عقيدة الخلاص الكاذبة التي تقول: "فجِّروا أنفسكم واقتلوا الكفَّار - لتدخلوا الجنة". يجب أن نناقش بعيدًا عن الجدل الشعبوي وبصراحة ما هي مفاهيم الإسلام التي من السهل أن يتم تشويهها من قبل الجهاديين واستغلالها من أجل أهداف أيديولوجيتهم الإرهابية.

 موضة مصطلح "الرواية المضادة"

 في سياق المواجهة الإيديولوجية أصبح مصطلح "الرواية المضادة" في الأعوام الأخيرة من العبارات الطنَّانة. غير أنَّ الوقوف ضدَّ شيء ما يعتبر شكلاً من أشكال الدفاع - وهو رد فعل. ولكن مع ذلك يجب قبل كلِّ شيء العمل على الوقوف بشجاعة والتعبير بوضوح عن رؤيتنا للمجتمعات الحرَّة التي تسودها سيادة القانون والتضامن، وأن نبيِّن أنَّ عقيدة الجهادية الخاطئة لا تُقدِّم أي شيء في هذا الصدد.

Asiem El Difraoui. Foto: privat
Der deutsch-ägyptische Politologe Asiem El Difraoui ist Mitgründer der Denkfabrik "Candid Foundation" in Berlin und Paris. Er befasst sich seit langem mit Terrorismus, unter anderem am Berliner Institut für Medien- und Kommunikationspolitik.

توماس هيغهامر يذكر شبكة الإنترنت باعتبارها أحد العوامل لانتشار الفكر الجهادي. وهذا صحيح - فأنا شخصيًا بحثتُ لفترة طويلة حول موضوع الإنترنت باعتبارها وسلية للدعاية والتعبئة الجهادية. وما من شكّ في ضرورة زيادة الرقابة الداخلية على الشبكات الاجتماعية وحذف المدوَّنات الجهادية. ولكن - لا الرقابة الجماعية ولا تقييد حرِّية الإنترنت منعتا حتى الآن انتشار الفكر الجهادي. ولذلك فإنَّ مواجهة مواقع الإرهاب وصيغتها الكاذبة عن الإسلام تحظى على الأقل بهذا القدر من الأهمية. وبإمكان أي مستخدم للإنترنت أن يفعل هذا.

 وفي المعركة ضدَّ أيديولوجية الإرهاب الشمولي يجب علينا بالطبع أيضًا أن نواجه الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي لجزء كبير من السكَّان ذوي الأصول المسلمة في أوروبا. وأوروبا لن تستطيع عزل نفسها عن جاراتها في جنوب البحر الأبيض المتوسط، فنحن نعيش في عالم مُعَولم.

 وصحيح أنَّنا لن نتمكَّن من حلّ الكثير من المشكلات في العالم العربي، ولكن يمكننا وبصرف النظر عن التصويت على خروج بريطانيا من الاتِّحاد الأوروبي أن نضع سياسة خارجية مشتركة، تستطيع أن تضعف تدريجيًا الفكر الجهادي هناك وتحرمه جزئيًا من الأرض الخصبة، وذلك من ناحية من خلال اتِّخاذ موقف واضح تجاه الحكَّام العرب، ومن ناحية أخرى من خلال تقديم المساعدات الاجتماعية والاقتصادية والتدابير التعليمية على نطاق واسع.

 يجب علينا قبل كلِّ شيء أن نفلت من فخ الاستقطاب، وهذا مهم بطبيعة الحال خاصةً بالنسبة لوسائل الإعلام: إذ لا يوجد شيء مثل "نحن والآخرين"، المهاجرين والمسلمين وأولئك الموجودين على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط. فالجميع ضحايا الإرهاب الأعمى، الذي قتل في أوروبا المئات وفي العالم العربي عشرات الآلاف.

الصور والتقارير حول موجات اللاجئين وإرهاب تنظيم "الدولة الإسلامية" والدمار الشامل، تنشر الخوف والرعب. ومع ذلك توجد في العالم العربي أشياء أكثر بكثير يمكن تناولها في وسائل الإعلام. حيث تحاول هناك المجتمعات المدنية وفي ظلِّ ظروف صعبة للغاية وأنظمة ديكتاتورية رهيبة الدفاع عن الحرِّيات والكفاح من أجل حياة كريمة. إنَّ ما يربطنا بجيراننا في الجنوب هو أكثر بكثير مما يفرِّقنا عنهم. ومحاربة الفكر الجهادي تحتاج الكثير من الشجاعة والثبات والكلمات الصريحة - ليس فقط من قبل سياسيِّينا، بل من قبل كلِّ فرد في مجتمعنا.

 

 

عبد العظيم الدفراوي

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: عبد العظيم الدفراوي /  موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de

 

 

عبد العظيم الدفراوي خبير سياسي ألماني من أصول مصرية، ومؤسِّس مشارك لمركز أبحاث "كانديد" في برلين وباريس.