صراعات دموية وتصفيات جسدية: إشكالية الاجتثاث في السياسات العربية

نزاعات عربية عبثية: تستنزف النزاعات العربية العربية موارد الشعوب أكثر من أي شيء آخر. تلك الصراعات مسؤولة عن الكثير من الشقاء والبؤس الذي يعم العالم العربي.

الكاتبة ، الكاتب: شفيق ناظم الغبرا

إن الهيمنة والسيطرة الدولية بكل تعبيراتها إستهدفت، على مر العقود، الإقليم العربي بسبب ثرواته وتنوع شعوبه وموقعه الجغرافي والنفطي ووجوده منذ عشرينيات القرن العشرين في مجال الحركات الاستعمارية.

ويمكن القول بأن الدول التي تخضع للهيمنة الدولية الشرسة، كدولنا العربية، والتي تشعر، بنفس الوقت، بالضعف العلمي والتجديدي والسياسي في إقليم محاط بالدول القوية تنكفئ في نزاعاتها نحو الداخل. فعوضا عن أن تنفجر هذه الدول والمجتمعات نحو الخارج تبدأ بالإنفجار نحو الداخل. وهذه هي احد أهداف الهيمنة الدولية تجاه الخليج وتجاه الشرق الاوسط.

الشعور بالضعف الذاتي كما والتفكك وعمق التحكم الخارجي تحول لعنصر رئيسي في عدائية العرب تجاه بعضهم البعض. الفشل مع الخارج تحول لفشل في الداخل، والفشل في الداخل تحول لفشل في الخارج ولآلية للتدمير الذاتي.

وان بدأنا بحصار قطر، الذي إستنزف الخليج منذ حزيران/يونيو 2017 سنجد أنه تعبير عن الضعف والالتفات نحو الداخل، فعدم المقدرة على مواجهة سياسات الولايات المتحدة السلبية منذ مجيء ترامب، وعدم القدرة على مواجهة امكان رفع قضايا بحق أكثر من دولة عربية بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إنتهى بانفجار داخلي ضمن أسرة مجلس التعاون: حصار قطر ومقاطعتها عوضا عن مواجهة قضايا رئيسية في الساحة الأمريكية. لهذا فأن يقال مثلا إن «محطة الجزيرة» سبب لعدم إستقرار دول عربية وخليجية او أن السماح لبعض ممثلي تيار الإخوان المسلمين للعيش في قطر، بعد ان عاشوا لعقود في الكثير من دول الخليج، هو سبب من أسباب عدم الاستقرار في المنطقة يساوي القول بأن إنتاج التفاح في المكسيك سبب من أسباب إهتزاز الاقتصاد الأمريكي.

أصبح من المستحيل حجب الحقيقة

وإن افترضنا ان وجود محطة كالجزيرة ووجود ممثلين للاخوان المسلمين في دولة جارة مدعاة لعدم الاستقرار، يصبح من الواضح أن رسائل النقد والاحتجاج العادية في دول العالم تتحول إلى رسائل تغير جذري في الواقع العربي. المشكلة ليست في محطة أو في تيار، بل المشكلة الحقيقية هي في الواقع المأزوم. إن الدول التي لا تتحمل النقد، كما يخبرنا التاريخ، تنتهي بانتشار النقد على كل لسان، بل يتحول النقد لوسيلة التغير وذلك عندما يصل للقطاع الأكبر من الناس والسكان. أصبح من المستحيل حجب الحقيقة.

 

ولو عرجنا على حرب اليمن، سنجد نفس الظاهرة، وفق أحد التحليلات فإن سبب حرب اليمن هو وجود الحوثيين وصواريخهم التي شكلت خطرا على المملكة العربية السعودية، وبالطبع سيطرة الحوثيين على اليمن سببت الحرب.

لكن الصورايخ متوفرة في كل مكان وسيطرة الحوثيين كان بالامكان التعامل معها بوسائل أقل عنفا ودون شن الحرب. فصورايخ إيران موجودة الآن في العراق وفي جنوب لبنان وفي سوريا. وهل يعني هذا اللجوء للحرب الشاملة كخيار اول؟

لقد وقعت الحرب في اليمن منذ سنوات ثلاث، لكن للآن لا يوجد اثبات أن صواريخ الحوثيين كانت ستتجه للمملكة إن لم تقع الحرب. الحرب جعلت كل الاوضاع اشد سوءا، وعرضت السعودية للكثير من المخاطر وحولت اليمن لمشكلة دائمة للخليج وللمملكة.. إن قيام الحرب بسبب خوف مبالغ به أو بسبب توقع بانتصار سريع كثيرا ما جعل القادة يستسهلون الحرب باعتبارها الطريق الاقصر لتحقيق الاهداف، لكن ذلك، كما تؤكد لنا معظم الحروب، نتاج ضعف في تقدير الموقف.



ولو عدنا قليلا للوراء، لننظر في هجوم صدام (النظام العراقي عام 1990) لإحتلال الكويت، فهل نتج ذلك الغزو عن قوة أم عن ضعف؟ وفق أحد التحليلات فإن غزو 1990 للكويت نتاج فشل الرئيس السابق العراقي في التعامل مع الخارج عبر الحرب الإيرانية التي إستمرت لمدة ثماني سنوات. ذلك الفشل الواضح على الصعيد العسكري والمالي انتهى بقيام جيشه باحتلال دولة الكويت.

فشل خارجي ينعكس سلبا على الداخل

الفشل في الخارج مدعاة للانقضاض على الداخل والمحيط. تماما كما ان فشل الرئيس ترامب في سنواته الاولى، وفشل الولايات المتحدة في سلسلة حروب سابقة مدعاة للانقضاض على الخليج وعلى كل دولة تستطيع الولايات المتحدة ابتزازها.



ولو نظرنا من هذه الزاوية إلى التدخل السوري الموسع في الحرب الأهلية اللبنانية والذي أنتج سيطرة سورية مضخمة على كل لبنان سنجد انه أيضا نتاج ضعف في تقدير الموقف وضعف داخلي في التعامل مع الشعب السوري.

فقد امتلكت سوريا الكثير في لبنان قبل غزوها له، وكان لها ممثلون وحلفاء، ولم تكن سوريا مضطرة لإحتلال لبنان ولا لإغتيال قادته وممثليه. بل أدى احتلالها للبنان ونزعة السيطرة التي لا تعرف الحدود في صفوف قيادتها لمخاسر كبرى ساهمت بالانفجار الداخلي في 2011.

 

 

ويتضح، بنفس الوقت، مدى الضعف في سياسات الدول العربية عند قيامها باجتثاث التيارات السياسية التي تختلف معها في الداخل. فإجتثاث الاخوان المسلمين وكل تيار نقدي في مصر منذ عام 2013 ثم في دول عربية عدة تعبير عن ضعف الادارة وركاكة القدرة على التعامل مع الرأي الآخر.

من لا يذكر اجتثاث البعثيين لكل الاطراف بمن فيهم القوميون والناصريون والشيوعيون والاسلاميون الشيعة والسنة والأكراد في زمن الرئيس السابق صدام حسين قبل 2003 في العراق، ومن لا يذكر سياسات إجتثاث البعث من قبل النظام الجديد في بغداد منذ 2003. ولو عدنا لبدايات النظام العربي في خمسينات وستينات القرن العشرين، كم من دولة كسورية وغيرها دمرت بناها ووحدتها الذاتية واستقرارها من جراء إجتثاث الرأي الآخر واجتثاث القوميين والناصريين لبعضهم البعض، او قيام الناصريين في مصر باجتثاث الاسلاميين والشيوعيين لتنتهي ذات الدول العربية بهزيمة مدوية في حرب 1967.

 

عداوات لا بداية لها ولا مبرر



لم يتعلم العرب الدرس بأن صراع العربي مع العربي، ضمن الدول العربية ام على حدودها وضمن أراضيها، مدعاة للضمور والضعف والتفكك. متى كان حصار العربي للعربي او مقاطعة العربي للعربي، او هجوم الطائرات والقنابل الأمريكية الصنع و قتل المعارضين واغتيالهم وخطفهم هو المدخل للتقدم؟ اليس هذا انعكاسا لقتل الحضارة وتجفيف منابع الابداع والاستقلال وفي النهاية تمهيد لثورات جديدة وعنف جديد وانتفاضات بل وهزائم امام الخارج؟

 

العنف والسياسة: متلازمة عمرها قرون
معارك العرب مع العرب هي الأشرس بحكم التداخل والاعتماد المتبادل، وثمن ذلك هو الأكبر على الناس والأفراد.



وعندما نقرأ رواية محمد حسن علوان "موت صغير" المبدعة عن قصة محي الدين بن العربي العالم الصوفي الكبير ومحنته في القرن الثالث عشر ميلادية نكتشف الكثير عن أحوال العرب في تلك الازمان. يتحالف الحاكم السلطان مع الافرنجة فيسلمهم القدس ثم يتحرك لازاحة ابناء عمومته في دمشق، ويتحالف أحد الخلفاء مع الصليبيين ضد حاكم مسلم آخر ينازعه على الخلافة والمكانة.

وبسبب هذه التحالفات يزداد الخليفة ضعفا وخنوعا للخارج بل يزداد الوضع تفككا للحد الذي يهرب كل جنوده من الجيش. ينتهى الحاكم وحيدا ومكسورا، والاخطر تنتهي البلاد تحت حكم الخارج وسيطرة اعداؤها. تحالفات الامس كتحالفات اليوم: لا منطق لها ولا قيمة، وعداوات لا بداية لها ولا مبرر، حروب لا يعرف أحد لماذا وقعت، ونهايات مأساوية لمن إجتث وتجبر.



في السياسة معارك رئيسية وأخرى ثانوية، مصالح مشروعة وأخرى ليست مشروعة. كم تقضى الدول العربية وقتا وجهدا في معارك ثانوية معتقدة انها معارك المصير، وكم يتصرف العرب تجاه بعضهم البعض بطرق تفتقد للمشروعية وحس المنطق. كم من معركة مصير تم التعامل معها باستخفاف كقضية فلسطين، وكم من قضية حقوق وتعبير وعدالة تم التعامل معها من خلال التصفية والإجتثاث. لا مستقبل للعالم العربي طالما لم يصوب طاقاته نحو الأساس الذي يصنع الأمم والحضارات.

 

 

 شفيق ناظم الغبرا 

حقوق النشر: قنطرة 2018

٭شفيق الغبرا كاتب وباحث عربي معروف يعمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة الكويت.