إيربين تقع على بعد 20 كيلومترً فقط من كييف -  مدينة مسرح لقتال عنيف.

الغرب وحرب روسيا على أوكرانيا
معركة بوتين والأوهام الغربية

ركز الغرب نظره طيلة عشرين عاما على عدو خطأ لم يكن يشكل أي تهديد وجودي يمكن مقارنته بمن شن الحرب على أوكرانيا. تعليق الكاتب الألماني شتيفان فايدنَر لموقع قنطرة.

في منتصف شهر شباط/فبراير (2022) أرسلت قناةُ الجزيرة الإخبارية الناطقة بالعربية بشكل مفاجئ مراسليها المختصين بتغطية الحروب -الذين عرفتُهم كمراسلين من بغداد وغزة وبيروت وكابول- إلى لفيف وكييف وأوديسا - وهي مدن أوروبية مفعمة بالحياة والمرح عرفتُها وأحببتها في رحلات كثيرة. لم يكن من الواضح بعد إن كان بوتين سيهاجم أوكرانيا، ولكن عندما شاهدتُ مراسلي قناة الجزيرة في أوكرانيا، لم يعد بإمكاني تجاهل إدراكي بأنَّ السلام في أوروبا بات ينتهي الآن وهنا. وصارت تداهمنا فوضى مستعرة كما في العالم الإسلامي منذ عام 2001 - مثل حيوان مفترس يتشمَّم فريسته السمينة، وهي في هذه المرة: مجتمعات الرفاهية في أوروبا الوسطى وساحتها الخلفية المهملة منذ فترة طويلة، أي أوكرانيا.

مطاردة العدو الخطأ

ركَّز السياسيون والخبراء لدينا نظرهم طيلة عشرين عامًا على العدو الخطأ، على الإسلام السياسي، الذي كما يبدو بات غير مؤذٍ عند النظر إليه من منظور اليوم! ولم يكن يشكِّل في أي وقت تهديدًا وجوديًا يمكن مقارنته بالحرب الدائرة حاليًا. كان الإسلام المثقل بالأزمات خصمًا يشعر بالامتنان. وكان الغرب يخوض حملة صليبية إيديولوجية من أجل "نزع تطرُّف" المسلمين وبهدف هدايتهم إلى "القيم الغربية". ولكن معظم العرب والمسلمين يشاركون الغرب قيمه هذه منذ فترة طويلة، مثلما يتَّضح ذلك مثلًا من خلال النظر إلى الأدب العربي - إذا قرأناه فقط!

وفي حين كان الأمريكيون يبحثون عن إرهابيين في العراق وأفغانستان ويخلقون خلال هذا البحث إرهابيين جددًا ويخوضون ضدَّ الإرهاب حروبًا "غير متكافئة" لا أمل فيها، كان يتم تجاهل التهديد الأكبر الموجود أمام أبوابنا: ليس أسامة بن لادن، بل "فلاديمير بن بوتين" إرهابي لديه أسلحة بيولوجية وكيماوية ونووية. وبدلًا من مراقبته عن كثب، بقينا نرعاه ونغذيه طيلة عشرين عامًا، وسامحناه على غزواته في جورجيا وفي شبه جزيرة القرم وفي دونباس، وتحمَّلنا هجماته بالغازات السامة واغتيالاته السياسية في مدننا، وعقدنا معه صفقات وأعمالًا تجارية بقدر ما يمكن - وما نزال نفعل ذلك.

والرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير مضطر للاختباء في الكهوف ولا يحتاج إلى مفجرين انتحاريين ويبدو عليه أنَّه رجل مهذب جدًا يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء وبإمكانه أن يخوض حربه بحسب اتفاقية لاهاي لعام 1907 الخاصة بقواعد وأعراف الحرب البرية. وفي حال لم تكن دباباته وطائراته كافية من أجل النصر، فلديه أسلحة نووية كافية لتدمير العالم.

 

هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك. Die Anschläge vom 9. September 2001 in New York; Foto: Alex Fuchs/AFP/dpa/picture-alliance
التركيز طيلة عشرين عامًا على العدو الخطأ: ركَّز السياسيون والخبراء بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر على الإسلام السياسي، "الذي كما يبدو غير مؤذٍ عند النظر إليه من منظور اليوم! ولم يكن يشكِّل في أي وقت تهديدًا وجوديًا يمكن مقارنته بالحرب الدائرة حاليًا. كان الإسلام المثقل بالأزمات خصمًا يشعر بالامتنان. وكان الغرب يخوض حملة صليبية إيديولوجية من أجل ’نزع تطرُّف‘ المسلمين وبهدف هدايتهم إلى ’القيم الغربية‘. لكن معظم العرب والمسلمين يشاركون الغرب قيمه هذه منذ فترة طويلة، مثلما يتَّضح ذلك مثلًا من خلال النظر إلى الأدب العربي - إذا قرأناه فقط"، مثلما يكتب شتيفان فايدنَر.

 

وبالتالي فقد كان خبراؤنا الأمنيون يطاردون العدو الخطأ. والعدو الصحيح بات يطاردهم ويخيفهم. فهل ما يزال بإمكاننا تصديقهم بأنَّه يريد في الحقيقة فقط غزو أوكرانيا ولا يسعى إلى صراع كبير مع "الغرب"؟ إلى حرب عالمية حقيقية تجعل من بوتين اسمًا لن تنساه البقية الباقية من البشرية؟

الحرب تم الإعلان عنها مسبقًا

فشلُ خبرائِنا الأمنيين التام هذا يُذكِّر بالفترة التي سبقت الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فعلى الرغم من أنَّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي إيه) كانت تراقب أسامة بن لادن وبعضًا من الأشخاص المشاركين لاحقًا في الهجوم، إلَّا أنَّها لم تستنتج الاستنتاجات الصحيحة وقللت من حجم الخطر وانهمكت في جدالات حول الاختصاص. وبعد أيَّام قليلة، تم اختطاف طائرات ركاب وتوجيهها إلى مركز التجارة العالمي.

والأمريكيون تعلموا من هذا الحدث وحذَّروا هذه المرة من وقوع الحرب. ولكن حتى في هذه المرة كان الوقت قد تأخَّر جدًا. وكان قرار بوتين بالهجوم قد تم اتخاذه منذ فترة طويلة - مثلما يمكن قراءة ذلك من مقاله المنشور في شهر تموز/يوليو العام الماضي (2021) "حول وحدة الأوكرانيين والروس التاريخية".

لقد كان الخطر الصادر عن بوتين وحاشيته معروفًا منذ زمن طويل. إذ إنَّ الأصدقاء والزملاء القادمين من روسيا إلى أكاديمية فنون العالم في مدينة كولونيا الألمانية لم يعودوا إلى وطنهم روسيا حتى في عام 2014. وكانوا يعرفون السبب.

لقد وصف في عام 2015 عالم الاجتماع الروسي ليف غودكوف السيناريو المستقبلي على النحو لتالي: "تصعيد النزاع المسلح بين الأطراف المتنازعة يبدأ في أوكرانيا ويُجبر بوتين على أمر الجيش الروسي بغزو المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا بشكل مباشر وعلني. ومن الممكن أن نتوقَّع نوعًا من مغامرة حرب لم يكن تصوُّرها ممكنًا حتى الآن - مثلًا، الهجوم على كييف والاستيلاء على وسط أوكرانيا مع ضمّ المناطق الشرقية والجنوبية إلى روسيا فيما بعد".

مع الرئيس الروسي في قارب واحد

صحيح أنَّ ليف غودكوف اعتقد أنَّ بوتين سيخسر مثل هذه الحرب ومن بعدها السلطة أيضًا، ولكن هذا مجرَّد عزاء ضعيف. وكما في حالة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، فقد حقَّق المهاجم هدفه في اللحظة التي بدأت فيها الحرب. وهذا الهدف يكمن في إلقاء عالم ما قبل الحرب المكروه عند المهاجم في سلة نفايات الماضي. وقد نجح بوتين في ذلك. إذ إنَّ ما كان يعتبر قبل الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022 أمرًا بديهيًا صار بعيدًا اليوم مثل ثقافة الترفيه والمرح في التسعينيات بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

وذلك لأنَّ قواعد اللعبة تتغيَّر أيضًا تلقائيًا مع الهجوم. ومن أجل المواكبة، يجب علينا اللعب بحسب قواعد جديدة. ونتيجة لذلك نحن نتغيَّر ولن نعود كما كنا: فقد كنا حتى وقت قريب دعاة سلام أزليين لم نكن نريد إنفاق المال على التسلح؛ أو كما كنا قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر: أتباع تعدُّدية ثقافية حالمين. وعندما يتم اكتساح الجميع، فلن يكون هناك مخرج جيّد لأي أحد ولا نصر من أي نوع. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو الحدّ من الأضرار. وسواء أردنا ذلك أم لا فنحن الآن في قارب واحد مع بوتين. ومن حولنا محيط من مستقبل غير مؤكِّد، حيث يمكن لأي طرف أن يسحب السدَّادة ويغرق القارب.

اليمينيون في أوروبا: طابور بوتين الخامس

وحرب بوتين تلقي أيضًا ضوءًا غير متوقَّع على الخلافات السياسية الداخلية بين أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية خلال العشرين عامًا الماضية. وعلى أبعد تقدير منذ "أزمة اللاجئين" في عامي 2014 وَ2015، دخل اليمينيون الجدد -الذين يُعرِّفون أنفسهم منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر خاصةً من خلال معاداة الإسلام- في تحالف مع بوتين ودعايته يُذكِّرنا بعبودية الشيوعيين الغربيين لموسكو خلال الحرب الباردة.

إنَّ حقيقة سير منتقدي الإسلام وبوتين بخطوة منسجمة لا تعتبر أمرًا تافهًا، بل هي جزء من حسابات بوتين لهذه الحرب - ومن الممكن أن تحسمها في يوم ما لصالحه. وذلك على أبعد تقدير عندما يفوز جمهوريو ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة. دعونا نتذكَّر: ترامب ما يزال لديه حساب مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي أراد في عام 2019 الحصول على أسلحة مضادة للدبابات من الولايات المتَّحدة الأمريكية. وترامب طلب منه مقابل ذلك محاكمة ابن بايدن، الذي يعمل في أوكرانيا. وقد أفضى هذا الخلاف إلى إجراءات عزل ترامب. ولذلك هناك خطر كبير من أنَّ أمريكا بقيادة جمهوريي ترامب يمكن أن تتخلى عن أوكرانيا وأوروبا وتتركهما وشأنهما وتستأنف التجارة مع روسيا من جديد.

تجدُّد خطاب صراع الحضارات

وجاذبية بوتين السلطوية لليمينيين الجدد تظل قوية أيضًا لأنَّه يستخدم خطابًا مناهضًا للغرب ومعروفًا منذ زمن طويل. وهو يمنح مفهوم صراع الثقافات والحضارات القديم والمحافظ حياةً جديدةً. وبهذه الطريقة يتم تعزيز منطق التمييز والإقصاء ويمكن بعد ذلك تطبيقه في أي وقت على الآخرين: على المسلمين والأفارقة والصينيين…

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة