ازدهار ثقافي في بغداد

الفن والأدب في العراق - ازدهار ثقافي في بغداد.
الفن والأدب في العراق - ازدهار ثقافي في بغداد.

عراقيون أداروا ظهورهم للسياسة بسبب إحباطهم من الساسة وألقوا بأنفسهم في أحضان الحياة الثقافية. الصحفية الألمانية بيرغيت سفينسون تسلط الضوء من بغداد لموقع قنطرة على حياة العراق الثقافية والفنية.

الكاتبة ، الكاتب: Birgit Svensson

لؤي الحضري لديه رسالة مفادها أنَّ موقع التراث العالمي في جنوب العراق آخذ في الجفاف وقريبًا لن تبقى هناك أية مياه في الأهوار. تموت الأسماك وتموت معها جميع الكائنات الحية، التي ميَّزت بلاد الرافدين لآلاف السنين. يقول الفنَّان التشكيلي لؤي الحضري في بيت تركيب، وهو مركز للفنِّ المعاصر في بغداد: "لقد بحثت حول التقاليد السومرية وأعدت بناءها في أعمالي التركيبية".

يقول لؤي الحضري في مساء يوم السبت خلال افتتاح معرضه للعديد من الزوَّار شارحًا مأساة جنة عدن التوراتية، التي كانت قد تعرَّضت للتهديد في البداية من قِبَل الدكتاتور السابق صدام حسين عندما جفَّف الأهوار خلال الحرب على إيران في الثمانينيات. وبعد إسقاطه في عام 2003، تم غمر هذه المنطقة بالمياه من جديد وعادت إليها حياتها القديمة.

ولكن الآن تتناقص باستمرار كميَّات المياه الجارية في نهري دجلة والفرات وتجف الأهوار من جديد. فالعراق يعتبر من أكثر خمس دول مهدَّدة بخطر تغيُّر المناخ في العالم. ويضاف إلى ذلك أنَّ كلًا من تركيا وإيران تعيقان تدفُّق المياه إلى بلاد الرافدين من خلال بنائهما السدود. "هذه مأساة"، مثلما يقول الفنَّان لؤي الحضري البالغ من العمر اثنين وأربعين عامًا.

 

عرض الفنَّان التشكيلي لؤي الحضري أعماله في المركز الثقافي بيت تركيب للفنّ المعاصر في بغداد.  Kulturzentrum Beit Tarkib in Bagdad; Foto: Birgit Svensson
عرض الفنَّان التشكيلي لؤي الحضري أعماله في المركز الثقافي بيت تركيب للفنّ المعاصر في بغداد. يسعى هذا الفنَّان إلى لفت الانتباه إلى عواقب التغيُّر المناخي وجفاف الأهوار في جنوب العراق. شرح لؤي الحضري خلال افتتاح معرضه للعديد من الزوَّار الوضع المأساوي في جنة عدن التوراتية. العراق يعتبر من أكثر خمس دول مهدَّدة بخطر تغيُّر المناخ في العالم. ويضاف إلى ذلك أنَّ كلًا من تركيا وإيران تعيقان تدفُّق المياه إلى بلاد الرافدين من خلال بنائهما السدود. "هذه مأساة"، مثلما يقول الفنَّان لؤي الحضري البالغ من العمر اثنين وأربعين عامًا.

 

"الكثير من الفنَّانين يكرِّسون أنفسهم حاليًا لموضوع تغيُّر المناخ في العراق"، مثلما تقول الألمانية هيلا ميفيس، المبادرة في تأسيس مركز بيت تركيب الثقافي الموجود منذ عام 2017 والذي يشعر بأنَّه مرتبط ارتباطًا خاصًا بالفنَّانين الشباب ويعمل على دعمهم. وهيلا ميفيس مديرة ثقافية عمرها واحد وخمسون عامًا وقد عادت من برلين إلى بغداد بعد اختطافها في شهر تموز/يوليو 2020 واضطرارها إلى أخذ استراحة في ألمانيا. وحول ذلك تقول: "أنا بغدادية وكان يجب عليَّ أن أعود". وتضيف أنَّ بغداد تشهد في الوقت الحالي ازدهارًا ثقافيًا حقيقيًا ويجب عليها أن تشارك فيه.

"أنا عراقي أنا أقرأ"

تدفَّق المئات من العراقيين والعراقيات إلى الفعاليات الثقافية وتحظى المهرجانات الأدبية بشعبية خاصة. توجد مقولة قديمة عن الشرق الأوسط تُثبت صحَّتها كثيرًا في هذه الأيَّام في بغداد: "القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ". بدءًا من مهرجان القراءة في شارع أبو نواس الممتد على ضفة نهر دجلة ومرورًا بمهرجان الشعر في شارع المتنبي وحتى معرض الكتاب في مركز المعارض في حي المنصور: ازدحام في كلِّ مكان وفي كلِّ مكان الناس يقرؤون ويناقشون الكتب وفي كلِّ مكان تقام احتفالات.

لقد أُقيم مؤخرًا وللمرة التاسعة على التوالي مهرجانُ القراءة "أنا عراقي أنا أقرأ". لم تشهد قَطُّ الدورات السابقة من هذا المهرجان حضور عدد كبير من الناس كالذي في دورته الأخيرة هذه، وخاصة من الشباب دون سنّ الخامسة والعشرين عامًا، والذين باتوا يشكِّلون الآن أربعين في المائة من سكَّان العراق. ولفترة طويلة لم تكن الحال كذلك في العراق. فالعراقيون كانوا منشغلين بالحرب والإرهاب. ولكن الآن، بعد خمسة أعوام من نهاية تنظيم داعش في العراق - عاد الناس إلى هذا التقليد وعادوا يقرؤون.

ولكن على العكس من المقولة المشهورة فإنَّ القاهرة لم تعد وحدها تكتب. ففي العراق نفسه أيضًا يتم تأليف الكثير من الأعمال الأدبية الجديدة، حيث يقوم المؤلفون بمعالجة ما عاشه العراق وتجد صدمات الماضي متنفسًا على الورق. وتتم تجربة أشكال جديدة من الأدب، والشائع حاليًا على ضفتي نهر دجلة هو مزيج من الشعر والنثر.

وهنا أيضًا، في مهرجان "أنا عراقي أنا أقرأ" - الكتَّابُ الصاعدون الشباب هم الذين يتركون بصماتهم ويُعبِّرون عن حبِّهم للتجريب. ومهرجان القراءة السنوي هذا يقوم بتنظيمه عامر مجيد، وهو شاب في مطلع الثلاثينيات من عمره، ويساعده في تنظيم المهرجان العديد من المتبرِّعين. وتتوفَّر في هذا المهرجان العديد من الكتب المجانية ويُوقِّع المؤلفون أعمالهم وترافق الموسيقى العراقية التقليدية هذا النشاط. لقد تم اختيار موقع مهرجان القراءة هذا بعناية على ضفاف نهر دجلة، حيث يوجد تمثال برونزي لشهرزاد، وهي واحدة من الشخصيات الرئيسية في حكايات ألف ليلة وليلة.

الهروب إلى الثقافة

نزل قبل أربع سنين الشبابُ العراقي مثل الشاب عامر مجيد والفنَّانين الشباب من بيت تركيب بأعداد كبيرة إلى الشوارع، وأقاموا مخيَّم احتجاج داخل ساحة التحرير في قلب بغداد لأكثر من عام، وأسقطوا الحكومة وطالبوا بقانون انتخابي جديد وتمكَّنوا من تقديم موعد الانتخابات. وكانت أجواء التفاؤل معدية وتملؤها رائحة الثورة. ولكن بعد ذلك جاء القنَّاصة والميليشيات والمخابرات وأخيرًا الوباء.

وقُتل أكثر من ستمائة متظاهر وتعرَّض الكثيرون للاضطهاد والتهديد واختفى بعضهم إلى الأبد. وتم اختطاف هيلا ميفيس كرهينة لأنَّها هي أيضًا نزلت إلى الشارع من أجل مستقبل أفضل في العراق. وهكذا تم خنق هذه الحركة. ووجد العراق نفسه عالقًا في أزمة سياسية خطيرة استمرت لمدة عام.

 

هيلا ميفيس ألمانية درست إدارة مسرح أتت إلى بغداد في العراق عام 2013 من أجل مشروع لمعهد غوته وقرَّرت البقاء. Kulturmanagerin Hella Mewis; Foto: Birgit Svensson
هيلا ميفيس ألمانية من مواليد برلين الشرقية وعمرها واحد وخمسون، درست إدارة مسرح، أتت إلى بغداد لأوَّل مرة في عام 2013 من أجل مشروع لمعهد غوته وقرَّرت البقاء. وأسَّست مركز بيت تركيب الثقافي وتعمل على دعم الفنَّانين الشباب في عملهم. عادت المديرة الثقافية هيلا ميفيس من برلين إلى بغداد بعد اختطافها في شهر تموز/يوليو 2020 واضطرارها إلى أخذ استراحة في ألمانيا. وحول ذلك تقول: "أنا بغدادية وكان يجب عليَّ أن أعود". وتضيف أنَّ بغداد تشهد في الوقت الحالي ازدهارًا ثقافيًا حقيقيًا ويجب عليها أن تشارك فيه.

 

وبعد عدم تمكُّن أعضاء البرلمان المنتخبين حديثًا من الاتفاق على مرشَّح لمنصب الرئيس وكذلك على مرشَّح لمنصب رئيس الوزراء، اندلع صراع خطير على السلطة في هذه الدولة المتعدِّدة الأعراق. وصار المراقبون يخشون من اندلاع حرب أهلية بين مختلف المجموعات العرقية والدينية مثلما حدث بين عامي 2006 و2007. وقد تم منع ذلك في اللحظة الأخيرة. فمنذ شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2022 توجد لدى العراق حكومة جديدة ولكنها تشكَّلت بالوجوه القديمة.

يتحوَّل في كلِّ يوم جمعة شارعُ المتنبي في مركز بغداد القديم إلى ملتقى للمشهد الثقافي والفنِّي. والمتنبي واحد من أهم شعراء العالم العربي (ولد سنة 915 أو 917 وتوفي سنة 965) وقد مُنِحَ اسمه لهذا الشارع ويوجد له نصبٌ تذكاري في بداية الشارع. ويلتقي هنا من الساعة العاشرة صباحًا وحتى يؤذِّن المؤذِّن لأداء صلاة الجمعة ظهرًا جميع مَنْ لديهم سمعة ثقافية وفنِّية.

وشارع المتنبي في الواقع هو شارع للكتب، يستطيع فيه الجميع بيع كتبهم كيفما شاؤوا وقد أصبح منذ فترة طويلة مركزًا للمشهد الإبداعي. ويلتقي هنا في مقهى الشابندر الناشرون والمؤلفون والموسيقيون والمخرجون والنحاتون والرسامون ببعضهم. ويوم الجمعة في شارع المتنبي هو بمثابة مؤسَّسة تشِّع في جميع أنحاء العراق.

وهناك خان قديم تم ترميمه بكلّ محبة من قِبَل أمانة بغداد وتحويله إلى مركز ثقافي يُوفِّر مساحات للفعاليات الثقافية والمعارض. وفي فنائه الداخلي، الذي كانت تجد فيه الجمال في السابق الراحة والماء، يمكن شراء حلى مصنوعة يدويًا وأعمال فنِّية صغيرة وهدايا تذكارية. وتقام أحيانًا قراءات على خشبة المسرح في الخان المُرمَّم، مثل مهرجان الشعر الأوروبي العراقي في بداية شهر كانون الأوَّل/ديسمبر.

يوم الجمعة في شارع المتنبي

يعتبر شارع المتنبي من أقدم وأشهر شوارع العاصمة العراقية بغداد وكان يعدُّ دائمًا كمقياس لوضع العراق. كانت في خمسينيات القرن الماضي أغلب الكتب المعروضة هنا مؤلفات ماركسية، ثم تم استبدالها بأعمال قومية عربية وبعد ذلك بكتب تُمَجِّد صدَّام حسين.

وبعد إسقاطه، كان يمكن العثور هنا لفترة قصيرة على كلِّ ما يمكن طباعته وتمويله. وكانت توجد هنا طبعات من المصحف مجلدة بشكل جميل وبصفحات مزيَّنة بحواف ذهبية، بجانب مجلات إباحية مثل بلاي بوي وكتاب "كفاحي" لأدولف هتلر في ترجمة عربية ومذكِّرات جورج واشنطن، وأيقونة موسيقى البوب مادونا شبه عارية بجانب المطربة المصرية أم كلثوم. ولكن ذلك تغيَّر بسرعة منذ عام 2005، عندما تولى المتشدِّدون الدينيون السلطة في العراق المحتل من قِبَل أمريكا.

وهكذ أصبح العري من المحرَّمات وباتت الكتب الدينية هي الأكثر انتشارًا. وانفجرت يوم الخامس من آذار/مارس 2007 سيارة مفخَّخة في شارع المتنبي. وأسفر الانفجار عن قتل أربعين شخصًا وتدمير جميع محلات بيع الكتب تقريبًا. واعتبر هذا الانفجار هجومًا من قِبَل متطرِّفين إسلامويين يستهدف على وجه التحديد ما كان يعتبر مشهدًا ثقافيًا ليبراليًا. ولم تعُد الحياة إلى شارع المتنبي إلَّا بعد انتهاء العمل في إعادة إعماره في شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2018.

كثيرًا ما تأتي آلاء جابر الياسري إلى شارع المتنبي في يوم الجمعة لأنَّها تلتقي هنا بأشخاص يفكِّرون ملثها. لقد كانت واحدة من بين عدة آلاف نزلوا إلى الشوارع في عامي 2019 و2020 من أجل المطالبة بنظام سياسي جديد وبحكومة أغلبية بحسب إرادة الناخبين وبمعارضة يمكن أن تؤخذ على محمل الجد. وعلى الرغم من أنَّ آلاء جابر الياسري البالغة من العمر ثلاثة وأربعين عامًا أصبحت نائبة في البرلمان مثل ثلاثة عشر شخصًا آخرين من حركة الاحتجاج، ولكنهم لا يشكِّلون معارضة قوية بوجود نوَّاب آخرين عدَّدهم الإجمالي ثلاثمائة وتسعة وعشرون نائبًا.

 

شارع المتنبي من أقدم وأشهر شوارع بغداد وكان يُعَدُّ دائمًا كمقياس لوضع العراق. Die Mutanabbi-Straße in Bagdad; Foto: Birgit Svensson
شارع المتنبي من أقدم وأشهر شوارع بغداد وكان يُعَدُّ دائمًا كمقياس لوضع العراق. كانت في خمسينيات القرن الماضي أغلب الكتب المعروضة هنا مؤلفات ماركسية، ثم تم استبدالها بأعمال قومية عربية وبعد ذلك بكتب تُمَجِّد صدَّام حسين. وبعد إسقاطه، كان يمكن العثور هنا لفترة قصيرة على كلِّ ما يمكن طباعته وتمويله. وكانت توجد هنا طبعات من مصحف القرآن مجلدة بشكل جميل وبصفحات مزيَّنة بحواف ذهبية، بجانب مجلات إباحية مثل بلاي بوي وكتاب "كفاحي" لأدولف هتلر في ترجمة عربية ومذكِّرات جورج واشنطن، وأيقونة موسيقى البوب مادونا شبه عارية بجانب المطربة المصرية أم كلثوم. ولكن ذلك تغيَّر بسرعة منذ عام 2005، عندما تولى المتشدِّدون الدينيون السلطة في العراق المحتل من قِبَل أمريكا.

 

وذلك لأنَّ الشخص الذي كان بإمكانه أن يستمر في إدارة العجلة قد ترك السياسة. فقد اعتزل الزعيم الشيعي مقتدى الصدر العمل السياسي بسبب إحباطه من الصراع المستمر على السلطة بين الإصلاحيين والمحافظين. قام الصدر في البداية بسحب نوَّابه من البرلمان وفي النهاية ترك العمل في السياسة بنفسه. وحول ذلك تقول آلاء جابر الياسري: "لقد تخلى بذلك عن أهدافنا"، وأصبح الطريق مفتوحًا أمام "الحرس القديم".

وهكذا لا يتبقى بالنسبة للكثيرين سوى الهروب إلى الثقافة، حيث يمكنهم أن يعيشوا إبداعهم. وخير دليل على ذلك الازدهار الثقافي في بغداد. تجذب التجاربُ من كلِّ الأنواع المستمعين والزوَّار والمتابعين بأعداد كبيرة سواء في الأدب أو الموسيقى أو الفنون التشكيلية أو الأفلام. ومعظمهم لا يريدون أن تبقى لهم أية علاقة بالسياسة، على الأقل في الوقت الحالي.

لقد قال تقريبًا جميع الأشخاص المستطلعة آراؤهم يوم الجمعة في شارع المتنبي: "لا يمكن توقُّع الكثير من هذه الحكومة القديمة الجديدة". وحتى "البرلمانية القادمة من الشارع" آلاء جابر الياسري ستواجه صعوبةً في تحريك أي شيء تحت قبة البرلمان. ولذلك فقد لجأت هي الأخرى إلى الثقافة. وأظافرها ملفتة للنظر وتمثِّل عملًا فنِّيًا رائعًا.

 

 

بيرغيت سفينسون

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de