
الموسيقى الصوفية في السودان – الموسيقار عاصم الطيب قرشي موسوعة تراث سودانية تؤكد أن المحلية قمة العالمية
"في القمة كنا عيناً ترنو للكون ..
في الحكمة نور يضوى عمق الحلزون..
تأخذنا رعشة سحر النون تلبسنا حالة عشق الله..
تأتي الدنيا زفة عرس نفرغ فيها ضوء الشمس..
يتكسر طيفاً همساً لمس ..
وصفاء يردد اسم الله..
الله ..الله.. الله "
لا يذكر اسمه في معهد الموسيقى والدراما التابع لجامعة السودان، إلا ويذكر لك أساتذة المعهد وموظفيه تلك القصة التي يحفظها طلاب الكلية عن ظهر قلب وقصته هناك: أنه يوماً دخل إلى مباني المعهد فوجد إحدى بائعات الشاي الشعبيات تجلس حزينة باكية فما كان منه إلا أن تحدث معها بلهجة منطقتها المحلية "الرطانة" ثم أخرج كمنجته وبدأ بعزف مقطوعة بإيقاع الكلش-أحد إيقاعات منطقة الانقسنا، وما أن بدأ بالعزف حتي قفزت "حاجة حواء" ترقص فرحا غير مبالية بالطلاب الذين التفوا حول المشهد. كانت تلك أول ما لفت نظر الناس لتلك الشخصية النحيلة ليظهر بعدها ذلك الشاب خلف كبار الفنانين كالموسيقار وردي ومحمد الأمين .
جاب الأستاذ والمربي الطيب قرشي البلاد طولا وعرضا غربا شرقا ليعود بزوجته من تلال الانقسنا لينجبا عاصم في قرية مصطفى قرشي في ضواحي مدينة الحصاحيصا في أواسط مشروع الجزيرة. ويعيش عاصم في رحاب قرى منطقة الحلاويين وبيئتهم الريفية حتى يرجع لمنطقة الانقسنا ليتابع تعليمه هناك وينتهي به المطاف في مدينة الخرطوم طالبا مقبولا بكلية الموسيقى والدراما قسم الموسيقى عن رغبة أكيدة راودته منذ الصغر ليحمل ذكريات قرى الحلاويين ومدائحها القروية وألحان وأغنيات مدينة الروصيرص بلهجاتها المحلية ورقصات وإيقاعات منطقة الانقسنا المختلفة.
يبدأ بالعزف فيتمايل الجميع ويحس أن السودان كله ملكه
"أحس أن السودان كله ملكي حين أغني"، يقول عاصم. "أحبه كأنه ملكي وحدي، وأتألم كأنه جسدي". يحفظ ويعزف كل إيقاعاته ولهجاته المحلية غير واضعٍ اعتبارات للقبلية والجمهور الذي قد لا يفهم كلمات تلك اللهجات، فيغني بلغات قبائل التاما والامبرورو وقبائل الانقسنا، ثم يمدح لأولاد حاج الماحي والبرعي ويعرج على إيقاعات الـ "فرنجابية" والمردوم ويلحقها بالنوبة ورنات "الدليب" الحزينة ممازجا إياها بأصوات "الجراري" القادمة من أواسط باديات كردفان.
وما أن يبدأ بالغناء والعزف حتي يتمايل الجميع ويفرحون وتصيبهم حالات بكاء في الأغنية التي تليها، تلك الدهشة التي تصاحب أغانيه فتصير أعصاب الناس كأوتار كمانه المشدودة فيحتويها -الكمنجة- كما يحتوى ألحانها الخارجة للناس يجتهد في إيصالها كما سمعها، وإن اختل قليلا توقف واعتذر بأنه فشل في إيصال إحساسها كاملا كما سمعها عند أهالي تلك المناطق، يقول عاصم : "لم أجد الصعوبة إطلاقاً في الحفر في تاريخ الوسط السوداني الموسيقي، بيد أن السفر في جغرافيا الهامش، كان وعرًا وعورة السفر في الدواخل، كنت حقيقة أبحث عن ذاتي وسودانيتي، تارة أتعرف على نفسي عبر الآخر، وأخرى على الآخر عبر ذاتي".
لا يقطع موسيقى عاصم إلا قصصه التي يرويها عن أغانيه وكيفية وصولها إليه من سكان تلك المناطق غير المعروفة لسكان المدينة والأجانب الذين يعزف لهم يحكي حكاياتهم وأمثالهم الشعبية، وتعايشهم وطرائقهم في التعبد. قصص تكون للبعض أجمل من غنائه حتى، فعاصم موسوعة تراث مختصرة يأتي بك من أقصي تلال كردفان إلى أعلي جبل الـ"تاكا" في 5 دقائق تكون كافية بأخذ قدر قليل من ثقافة وطن قارة في ثقافته واختلافات سحناته. يحكي عن "أباشومو" الفار الذي أصاب المحاصيل تارة وعن إيقاع الـ "كتلوك" وقصص قتالات ومعارك البجا عن رقصات قبائل الهدندوة والارتيقا ليرجع غربا باتجاه شرق بعيد. تذهب معه تأملات الحضور كأنهم على متن طائرة نفاثة تجوب البلاد طولا وعرضا ذات جلستهم المسائية ، ويعتذر مرارا بأنه فشل ان يوصل تلك الإيقاعات للجمهور كما سمعها تماما.
لم يعلم المربي الفاضل الطيب قرشي أن ابنه الصغير، الذي ترسم آلة النُوبةَ –وهي طبل صوفي تراثي- على الشفاه الدهشة، يمكن أن يصبح أشهر من يتغنى بذلك الغناء الصوفي ويحمله -إيقاع النُوبة- لأقصى مشارق الأرض ومغاربها ليسمع أمام اللوفر الفرنسي وفي مبنى البرلمان الأسترالي وميادين النرويج ومسرح سيدني وصولا للقارة الأمريكية. فبين خلفية أبيه المتصوفة وعلاقته بطيبة الشيخ القرشي ارتبط عاصم بالتصوف، تصوف يباهي به وسط مجتمعات التحضر بلا تكلف.