
رثاء الممثل والكوميدي الكويتي البارز عبد الحسين عبد الرضا"باي باي!" عبد الحسين...كنز الكويت الوطني
قبل بضعة أشهر حضَرتُ عرضًا لفرقة "نَغَم كويتي" في لندن، وكان أغلب الحضور من جنسياتٍ عربية مختلفة، أغلبها لأشخاص نشأوا في الكويت. تعالَت الأصوات مع الفرقة المُجدِّدَة بقيادة الموسيقي مشعل حسين عبر غناء كلاسيكيات الأغاني الكويتية.
ليلتها سمِعتُ مجموعة من الشباب العرب وهم يرددون بنُوستالجيا عذبة مصطلحاتٍ كويتية أصبحَت متداوَلة بشكل يومي، وهي مَقولات الممثل والكوميدي الكويتي عبدالحسين عبدالرضا، الذي فارَقنا يوم 11 أغسطس/ آب 2017 في إحدى مستشفيات لندن، تلك العاصمة التي زارها في واحدة من أشهر مسرحياته "باي باي لندن" (1981) والتي تناولت شؤون السياحة الخليجية والعلاقات العربية.
رحيل درويش وعبد الرضا...يُتْم ثقافي
هذه "الإيفِيهات" لعبد الرضا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الموروث الكويتي ، شأنها شأن الموسيقى التقليدية والأمثال الشعبية. أذكُر عند وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 2008 كم شعَرتُ أنا وكُثُر من الفلسطينيين باليُتم الثقافي، وهو يُتمٌ جَماعي يُعَبِّر عن خسارة إبداعية لروح الشعب. وها نحن نشعره اليوم مع وفاة عبدالرضا بعد صراعٍ طويل مع المرض ورحلةٍ أطول من الإبداع. من السهل أن نتذكر الماضي عبر عدساتٍ وَرديَّة اللون بأوصاف مثل "الزمن الجميل" أو "الفن الأصيل"، إلا أن أعمال عبد الرضا تأخذنا حقًا إلى زمنٍ ثريّ من إبداعات الشاشة الكويتية وفنٍّ بارع تجاوز ذلك الزمن.
عبدالرضا الذي وُلد عام 1939 في منطقة "شرق" في مدينة الكويت القديمة لأبٍ كان رئيسًا للبَحّارَة "نُوخِذَة"، نشأ في عائلة كبيرة العدد وفي حُضن والدة تحمَّلَت مسؤولية تربية الأولاد أثناء غياب زوجها في البحر. عمل منذ صغره لمساعدة والدته بعد وفاة والده، تلك الظروف الصعبة التي غذَّت بمرارتها مزيجًا من الفرح والحزن في توليفةٍ حمَلَها صوت عبدالرضا العميق وتلقائيته المُذهلة ووسامته المُشاغِبة وحركاته ذات اللكنة المحلية والعالمية في آن.
تغريدات طائفية تحريمية مقابل إرث إنساني واجتماعي وإبداعي كبير
تَعُود أصول عائلة عبد الرضا إلى إقليم الأهواز في إيران، ورغم أن اتباعه المذهب الشيعي لم يُشكِّل أمرًا جَدليًّا في حياته، إلا أن ذِكراه قد تعرَّضَت لفتاوى التكفير، أشهرها "مُغَرَّدَة" الداعية السعودي علي الربيعي مفادها تحريم الترَحُّم على عبدالرضا لأنه "رافِضي إيراني مات على الضَّلالَة". رغم النزعة الطائفية لهذه التغريدة والتَّحريمية لتغريدات أخرى، لا يمكننا إنكار الأثر الكبير - الإنساني والاجتماعي إن لم يكن الإبداعي – لهذا الفنان. وهذا ما عبّر عنه تصاعُد أصوات الاحتجاج على هذه الفتاوى وتهافُت الكويتيين من كافة الأطياف والمَناصِب لوداع محبوبهم يوم وري جثمانه ثرى أرض الكويت.
تدرَّب عبدالرضا في فنّ الطباعة في مصر وألمانيا، وعمل في القطاع الحكومي في الكويت حتى عام 1979. إلا أن مشواره الفني بدأ عام 1961 في مسرحية "صقر قريش" عندما اكتشفه المسرحي المصري–السوري زكي طليمات (1894–1982) لدى دعوة الأخير من قبل المؤسسة الثقافية الكويتية للإشراف على الحركة المسرحية الناشئة والسابقه لعهدها. وتوالت المسرحيات مثل "فُرسان المناخ" (1983) عن اِنهيار سوق الأوراق المالية غير الرسمي عام 1982، ومسرحية "سيف العرب" (1992) عن غزو العراق للكويت عام 1990، والتي تعَرَّض على إثرها لمحاولة اِغتيال.
تخفيف وَحشة الغربة بأغاني الأمهات الفلسطينيات ومنهل الثقافة الكويتية
أذكر عند سفري من الكويت إلى لندن للدراسة عام 1989 شعوري بوَحشةٍ ثُلاثية الأبعاد: بدءًا من الوطن الأم، مرورًا بوطن النشأة، ووصولًا إلى وطن المولد. عاملان رئيسيان ساهما في تخفيف وطأة الألم، وهما أغاني الأمهات الفلسطينيات اللواتي علّمنَني الغناء والانتماء، ومنهل الثقافة الكويتية الذي منه شربتُ لعقدين من الزمن.
قبل ظهور الإنترنِت، كانت قائمة طلباتي من أصدقاء الكويت تتصدرها تسجيلاتٍ متنوعة لعبدالرضا وكلاسيكيات مثل فيلم "بس يا بحر" (1972) للمخرج خالد الصدِّيق، وأمسيات المعهد العالي للفنون الموسيقية تحت إشراف أحمد باقر (1929–2011). هذا الموسيقي النهضوي هو من صاغ كلمات وألحان أوپريت "مُداعَبات قبل الزواج" (1975) الذي أبدع فيه عبدالرضا الحوار الغنائي مع سِندريلّا الشاشة الكويتية السيدة سعاد عبدالله (م. 1950).