دبلوماسية مغربية جديدة...البراغماتية بدل الاصطفاف

محطات متعددة، وجدت فيها الدبلوماسية المغربية نفسها مجبرة على التبعية، لمواقف حلفائها في ملف أو قضية. لكن انصدام المغرب من تخاذل حلفاء في قضية الصحراء ومسائل إقليمية، دفعه لتبني منهجية جديدة براغماتية في خياراته الدبلوماسية: تقاطِع الولاء للأحلاف التقليدية، وتجعل معيار المصلحة ضابط سياسته الخارجية. الباحث محمد طيفوري يجيب على سؤال لموقع قنطرة: كيف خرجت الرباط من شرنقة الولاء إلى الاستقلالية؟

الكاتبة ، الكاتب: محمد طيفوري

فرضت أحداث الربيع العربي -وما رافقها من قرارات ومواقف لبعض القوى الإقليمية والدولية، إضافة إلى التطورات التي تشهدها موازين القوى عالميا- على المغرب إعادة النظر في سياسته الخارجية، بعدما تيقن بأن البراغماتية والاستغلال -وأحيانا الابتزاز- خلفيات تؤطر سياسات أغلب الدول المصنفة تاريخيا في خانة حلفائه الاستراتيجيين. نهج مغربي جديد في السياسة الخارجية تعدَّدت المحطات التي وجدت فيها الدبلوماسية المغربية نفسها مجبرة على التبعية والانصياع، لمواقف حلفائها التقليديين في ملف أو قضية، بحكم إكراهات التموقع والاصطفاف في هذا الحلف أو ذاك. لكن في المقابل، صُدِمت مرات عدة من تخاذل من تعتبرهم في حكم الحلفاء عن دعمها في قضية الصحراء، أو بعض القضايا الإقليمية التي اختارت الرباط أن تقوم فيها بدور الوساطة (الملف الليبي، مسألة الأزواد...). ما دفع المغرب إلى تبني نهج جديد في سياسته الخارجية، يقطع مع حقبة التبعية والولاء للأحلاف التقليدية. ويؤسس لأسلوب يقوم على جعل معيار المصلحة ضابطا يحكم القرار الدبلوماسي الخارجي للبلاد.  

احتجاج على التهميش الاقتصادي في المغرب.
لا بديل عن مواصلة الإصلاحات السياسية: لا شك أن قرار فك الارتباط مع الأحلاف التقليدية، بنسج شراكات جديدة تحكمها البراغماتية والمصالح المتبادلة، توجه يحسب لصالح الدبلوماسية المغربية التي ظلت لعقود من الزمن رهنية محور باريس واشنطن الرياض. لكنه طبعا لن يكون بلا ثمن، ليس بمقدور الرباط تأديته، ما لم تعمل على وحدة الجبهة الداخلية، وتحصينها من محاولات الاختراق، من خلال العمل على مواصلة الإصلاحات السياسية، كما يرى محمد طيفوري. في الصورة: احتجاج على التهميش الاقتصادي في المغرب.

 خيار كانت له انعكاسات واضحة على الدبلوماسية المغربية، بعدما أضحى ميزان الربح والخسارة محددا جوهريا في قراراتها. فما هي أبرز الصور التي تعبر عن هذا التغيير؟ وكيف استطاعت الرباط الخروج من شرنقة الولاء إلى الاستقلالية في المواقف؟ وعلى أي مرتكزات يستند المغرب كي ينحو منحى البراغماتية في خياراته الدبلوماسية؟ التمرد على الحلفاء التقليديين وجدت الرباط نفسها وجها لوجه مع الحلفاء التقليديين، بعد هذا النهج الجديد في دبلوماسيتها، الذي حتّم عليها الخروج من شرنقة الولاء الأعمى، واختارت التموقع في سياق دولي مضطرب، وفق ما تفرضه مصالحها أولا وقبل كل شيء. شكَّل هذا التوجه صدمة غير متوقعة للدول التي كانت تتعامل مع المغرب كتابع لها، بعدما وجدت نفسها تفقد -وبشكل مفاجئ- أحد الأصوات المناصرين والمساندة لمواقفها وقراراتها على الصعيد الدولي. كان موقف الحياد -ثم محاولة الوساطة لاحقا- الذي اتخذه المغرب من الأزمة القطرية الخليجية، بعدما قررَّت في يونيو / حزيران 2017 كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر، صورة واضحة للخروج عن الاصطفاف التقليدي للمغرب، المحسوبة تاريخيا على محور الرياض أبو ظبي. 

زعماء الإمارات وقطر والسعودية.
خروج عن الاصطفاف التقليدي للمغرب في الأزمة القطرية الخليجية: وجدت الرباط نفسها وجها لوجه مع الحلفاء التقليديين، بعد هذا النهج الجديد في دبلوماسيتها، التي حتّم عليها الخروج من شرنقة الولاء الأعمى، واختارت التموقع في سياق دولي مضطرب، وفق ما تفرضه مصالحها أولا وقبل كل شيء. شكَّل هذا التوجه صدمة غير متوقعة للدول التي كانت تتعامل مع المغرب كتابع لها، بعدما وجدت نفسها تفقد -وبشكل مفاجئ- أحد الأصوات المناصرين والمساندة لمواقفها وقراراتها على الصعيد الدولي.كان موقف الحياد -ثم محاولة الوساطة لاحقا- الذي اتخذه المغرب من الأزمة القطرية الخليجية، بعدما قررَّت في يونيو / حزيران 2017 كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولة قطر، صورة واضحة للخروج عن الاصطفاف التقليدي للمغرب، المحسوبة تاريخيا على محور الرياض أبو ظبي.

 لم يستوعب الكثيرون هذا التحول المفاجئ في المواقف، خاصة وأن الرباط كان على الدوام في حلف المملكة العربية السعودية، في مختلف القضايا المرتبطة بالعالمين العربي والإسلامي. وأحيانا سباقة في مواقفها، على غرار ما حدث في مارس / آذار 2009، حين أعرب المغرب عن تضامنه مع مملكة البحرين، على خلفية تصريحات مسؤولين إيرانيين بأن البحرين محافظة إيرانية، ثم تطور الأمر إلى إعلانه قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران. تحوّل هذا التمرد -في أحيان أخرى- ليتخذ صورة تنافس وندية لقوى دولية، كانت تنظر إلى المغرب كطفل مدلل لديها، مثلما هو الحال مع فرنسا التي وجدت نفسها مهددة بمنافس اقتصادي في دول إفريقية عدة، تعتبرها بحكم الإرث الاستعماري حديقتها الخلفية. وبلغ الأمر مستوى تقَّدم فيه المغرب، على حليفه الأول ومستعمره السابق، في بعض الدول الإفريقية. إذ احتلت فرنسا المرتبة الثانية من حيث الاستثمارات في السوق الإيفوارية مثلا، بما مجموعه حوالي 112 مليون دولار في تسع مشاريع استثمارية، فيما تصدر المغرب قائمة البلدان المستثمرة في الكوت ديفوار بحوالي 213 مليون دولار، في أربع مشاريع استثمارية فقط. جبهات مفتوحة على الساحة الدولية  تفطَّنت الدبلوماسية المغربية إلى أن الرهان على المحاور التقليدية لم يعد كافيا في زمن التحولات الكبرى، بعدما تعرض للطعن -وأحيانا الابتزاز- أكثر من مرة، فيما يتعلق بتطورات ملف وحدة المغرب الترابية، من دول بوَّأته منزلة خاصة، كشريك يحظى بموقع استراتيجي. 

 الملك المغربي محمد السادس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اقتتاح متحف اللوفر في أبو ظبي بالإمارات العربية المتحدة.
تنويع الشركاء، وعدم الارتهان إلى القوى الكبرى التقليدية: "توجَّهَ المغرب نحو تنويع شركائه"، كما جاء في خطاب الملك المغربي محمد السادس بقمة المغرب ودول التعاون الخليجي. فاتجه عاهل البلاد شرقا نحو روسيا الاتحادية، معلنا شراكة استراتيجية بين البلدين. ثم جاء دور بكين، في زيارة جمعت بين الاقتصاد والسياسية، بغرض التأكيد على التحول الاستراتيجي الهام في السياسة الخارجية المغربية. وبعث رسالة إلى جيرانه الأوروبيين -خصوصا فرنسا وإسبانيا- مفادها أن استغلال فضاء شمال إفريقيا له ثمن لا بد من دفعه، وفق ما يكتب محمد طيفوري.

 ما دفعه إلى كسر الثنائية التقليدية للمحاور -واشنطن مقابل موسكو- بفتح جبهات جديدة، تسمح له بتوسيع هامش المناورة -بعدما ولَّى عصر الوفاء الإيديولوجي (رأسمالية/ اشتراكية)- اعتمادا على شركاء استراتيجيين جدد، يمكن التعويل عليهم للدفاع عن قضاياه، وحماية مصالحه في المحافل الدولية. كانت التصريحات غير المحايدة للأمين العام الأممي الأسبق بان كي مون، أوائل شهر مارس 2016، حين وصف المغرب بـــ "دولة احتلال"، بمثابة مُحفز إضافي للدبلوماسية للمغربية، لتبني المزيد من البراغماتية في تحركاته على الصعيد الدولي، معلنا أن زمن وضع البيض في سلة واحدة انتهى. كما جاء في خطاب محمد السادس بقمة المغرب ودول التعاون الخليجي: "المغرب ورغم حرصه على الحفاظ على علاقاته الاستراتيجية بحلفائه، فقد توجه في الأشهر الأخيرة نحو تنويع شركائه.. فالمغرب حر في قراراته واختياراته، وليس محمية تابعة لأحد". في نفس الشهر، اتجه عاهل البلاد شرقا نحو روسيا الاتحادية، في زيارة وُصفت بالتاريخية عقب تتويجها بإعلان شراكة استراتيجية بين البلدين. تتضمن برنامج عمل حقيقي، يروم تقوية العلاقات الثنائية والتعاون وتبادل المنافع، والسعي للمساهمة في إيجاد تسوية للقضايا الدولية والإقليمية الرئيسية. جاء دور بكين بعد شهرين، في زيارة جمعت بين الاقتصاد والسياسية، بغرض التأكيد على التحول الاستراتيجي الهام في السياسة الخارجية المغربية، القائم على تنويع الشركاء، وعدم الارتهان إلى القوى الكبرى التقليدية. وبعث رسالة إلى جيرانه الأوروبيين -خصوصا فرنسا وإسبانيا- مفادها أن استغلال فضاء شمال إفريقيا له ثمن لا بد من دفعه. 

 زيارة الملك محمد السادس إلى أديس أبابا في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
منافسة المغرب لحليفه الأول ومستعمره السابق في إفريقيا: يتحدث محمد طيفوري عن تمرد للمغرب على حلفائه وقد "تحوّل هذا التمرد -في أحيان أخرى- ليتخذ صورة تنافس وندية لقوى دولية، كانت تنظر إلى المغرب كطفل مدلل لديها، مثلما هو الحال مع فرنسا التي وجدت نفسها مهددة بمنافس اقتصادي في دول إفريقية عدة، تعتبرها بحكم الإرث الاستعماري حديقتها الخلفية. وبلغ الأمر مستوى تقَّدم فيه المغرب، على حليفه الأول ومستعمره السابق، في بعض الدول الإفريقية. إذْ احتلت فرنسا المرتبة الثانية من حيث الاستثمارات في السوق الإيفوارية مثلا، بما مجموعه حوالي 112 مليون دولار في تسع مشاريع استثمارية، فيما تصدر المغرب قائمة البلدان المستثمرة في الكوت ديفوار بحوالي 213 مليون دولار، في أربع مشاريع استثمارية فقط".

 الاختراق الناعم في إفريقيا ظهرت البراغماتية بجلاء في السياسية الخارجية المغربية من خلال اختراقه الناعم للقارة الإفريقية، التي أدت إلى استعادة مقعده بسهولة كبيرة في منظمة الاتحاد الإفريقي، بعد غياب استمر لأزيد من ثلاثة عقود. يكشف إمعان النظر في الدبلوماسية المغربية بهذه القارة عن براغماتية نوعية، تمثلت في تبني تعددية على مستوى المداخل (الاقتصادي، الديني)، وتنوع في المقاربات (الهجرة، الأمن)، ما فسح المجال أمام المغرب للتطلع كي يكون ضمن الدول المتزعمة للقارة السمراء. حلم يسعى المغرب لتحقيقه، بعد تقديم طلب الانضمام إلى أكبر تجمع اقتصادي بغرب إفريقيا؛ مجموعة الإيكواس التي تعود بداياته إلى سنة 1959، والمكونة حاليا من خمسة عشر دولة (نيجريا، التوغو، سيراليون، النيجر، مالي، السينغال، ليبريا، غانا، غينيا، غينيا بيساو، غامبيا، الكوت ديفوار، الرأس الأخضر، بوركينافاسو، البينين)، حيث سيصبح ثاني أكبر اقتصاد في المجموعة بعد نيجيريا، ويحول المجموعة إلى القوة الاقتصادية 16 عالميا. 

مظاهرة احتجاجية على بان كي مون في المغرب.
"مُحفز إضافي لتبني الدبلوماسية للمغربية المزيد من البراغماتية في تحركاته على الصعيد الدولي": يرى محمد طيفوري أن "التصريحات غير المحايدة للأمين العام الأممي الأسبق بان كي مون، أوائل شهر مارس / آذار 2016، حين وصف المغرب بـــ "دولة احتلال"، كانت بمثابة مُحفز إضافي للدبلوماسية للمغربية، لتبني المزيد من البراغماتية في تحركاته على الصعيد الدولي، معلنا أن زمن وضع البيض في سلة واحدة انتهى". وكان مصدر مغربي رسمي قال يوم الخميس (17 مارس/آذار 2016) إن المغرب طلب من الأمم المتحدة سحب 84 من موظفي بعثتها بالصحراء الغربية بعد تصريحات للأمين العام بان كي مون اعتبرتها الرباط غير مقبولة بشأن هذه المنطقة المتنازع عليها. وقال بان كي مون السبت الخامس من آذار/مارس 2016 خلال تفقده مخيمات للاجئين صحراويين قرب تندوف في الجزائر، بحسب ما نقلت عنه وسائل اعلام محلية، إنه يتفهم "غضب الشعب الصحراوي تجاه استمرار احتلال أراضيه".

 لكن الاعتراض على هذا التوجه ما فتئ يتزايد، من بعض حلفاء المغرب التقليديين، ممن يرون في ذاك الانضمام -متى تحقق- تهديدا مباشرا لمصالحهم. خصوصا، وأن موضوع الطلب وضع على جدول أعمال القمة الـ 52 لزعماء الدول الأعضاء في المجموعة التي انعقدت في العاصمة النيجرية أبوجا نهاية عام 2017، قبل أن يتم تأجيله إلى موعد لاحق.  مما لا شك فيه أن قرار فك الارتباط مع الأحلاف التقليدية، بنسج شراكات جديدة تحكمها البراغماتية والمصالح المتبادلة، توجه يحسب لصالح الدبلوماسية المغربية التي ظلت لعقود من الزمن رهنية محور باريس واشنطن الرياض. لكنه طبعا لن يكون بلا ثمن، ليس بمقدور الرباط تأديته، ما لم تعمل على وحدة الجبهة الداخلية، وتحصينها من محاولات الاختراق، من خلال العمل على مواصلة الإصلاحات السياسية التي توقفت منذ آخر انتخابات شهدتها البلاد.   محمد طيفوريحقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de  محمد طيفوري كاتب وناشط حقوقي مغربي وباحث في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية، عمل سابقاً لدى المركز العلمي العربي للدراسات والأبحاث.