لبنان: ثورة على الحرب الأهلية

تشهد المنطقة العربية عموما، والعراق ولبنان والجزائر خصوصا، موجات احتجاجات وحراك شعبي غير مسبوق
تشهد المنطقة العربية عموما، والعراق ولبنان والجزائر خصوصا، موجات احتجاجات وحراك شعبي غير مسبوق

الشعب اللبناني إذ يثور على "نظام الطائف" أو بالأحرى نظام الحرب الأهلية، ويرفضه ومعه رموز تلك الحرب من قادة الميليشيات وأمراء الحرب الذين يهيمون على الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، فهو ينعتق في الآن نفسه من "الثقافة" التي أفرزتها تلك الحرب ورعتها طبقتها السياسية. رؤية الكاتب والباحث طارق عزيزة لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: طارق عزيزة

في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، شهد لبنان انطلاقة ثورة شعبية سلمية فاجأ اللبنانيون أنفسَهم بها قبل أن يفاجئوا العالم. مئات ألوف اللبنانيات واللبنانيين بأجيالهم المتنوعة، وعلى تباين منابتهم الدينية والطائفية والمذهبية، تدفّقوا إلى الشوارع والساحات في مختلف المدن والمناطق اللبنانية في مشهد غير مسبوق، منتفضين ضدّ الطبقة السياسية الفاسدة التي تحتفظ بالسلطة وتداورها فيما بينها، وتتوارثها عائلاتها منذ ثلاثة عقود على أقلّ تقدير. وهذه العائلات أيضاً فوجئت من حجم التظاهرات الشعبية المناهضة لها حتى في عقر مناطقها وطوائفها!

وصف ما يجري بـ "الثورة" ليس من باب المبالغة أو المديح، ذلك أنه، بصرف النظر عن احتمالات النجاح أو الفشل، فإنّ ما يشهده لبنان، لأنه لبنان الذي نعرف، ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ثورة وعيٍ مدني، وطني، حديث لشعبٍ أدرك أفراده أنهم في الهمّ سواء، وأنّ مصالحهم المشتركة أقوى وأكبر وأكثر جدية بكثير من كلّ أوهام التنابذ والتنافر والتباغض الطائفي التي فرّقتهم ومزّقت مجتمعهم، وساهمت في تمكين أمراء الطوائف من حكمهم.

لقد ثاروا على الحواجز الطائفية في بلدٍ تأسس أصلاً على الطائفية السياسية المقوننة، على ما يروي تاريخ لبنان الحديث والمعاصر. فمنذ تشكّل الكيان اللبناني وحتى اللحظة، يجري تقاسم مراكز السلطة بمستوياتها المختلفة وفقاً لمعايير وأسس طائفية ومذهبية، بدءاً من قمّة هرم السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصولاً إلى أصغر المناصب والوظائف الإدارية، ومروراً بالجيش وأجهزة الأمن والشرطة.

صحيح أنّ نسب التوزيع قد شهدت تغيّرات عدّة في ضوء الظروف السياسية وموازين القوى المتبدلة، خارجياً وداخلياً، إلا أنّ جوهر النظام الطائفي بقي ثابتاً. هكذا كان الحال في "متصرفية جبل لبنان" (1861 – 1918) تحت حكم السلطنة العثمانية، وكذلك خلال مرحلة الانتداب الفرنسي وإنشاء "لبنان الكبير" (1920 - 1943)، وهو أيضاً ما كرّسه "الميثاق الوطني" عند استقلال الجمهورية اللبنانية (1943)، ثم لتؤكّد عليه أخيراً "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" المعروفة باسم "اتفاق الطائف" (1989)، التي وإن أفرزت تعديلات ملموسة على الحصص والصلاحيات، إلا أنّها حافظت على مبدأ المحاصصة الطائفية والمذهبية، الذي يتنافى كلّياً مع المواطنة الحديثة والقيم الديمقراطية العصرية.

 

يسقط الخوف ونحيا نحن.#لبنان_ينتفض#لبنان | #Lebanon pic.twitter.com/iK7835oHIA

— Raseef22 (@Raseef22) November 4, 2019

 

"ثار اللبنانيون واللبنانيات على الحواجز الطائفية في بلدٍ تأسس أصلاً على الطائفية السياسية المقوننة، على ما يروي تاريخ لبنان الحديث والمعاصر"

وإلى هذا "الإرث" المديد من النظام الطائفي في لبنان، ثمّة أيضاً تاريخ مثخن بالنزاعات الأهلية، التي كان آخرها من أطول وأسوأ الحروب الأهلية التي شهدها العالم في القرن الماضي، واستمرت لخمسة عشر عاماً (1975 - 1990)، وانتهت بموجب "اتفاق الطائف" السابق ذكره، الذي وإن أوقف إطلاق النار إلا أنّه كرّس أمراء الحرب قادةً للبلد، مما سمّم الحياة العامة وفخّخ السياسة والمجتمع اللبنانيين بمناخ الحرب الأهلية وذاكراتها.

ولعلّ من المفارقات التاريخية التي لا تخلو من مغزى أن تتزامن الذكرى الثلاثين للطائف مع تصاعد زخم الثورة في لبنان ضدّ النظام الذي أنتجه هذا الاتفاق (أُقرّ بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1989). ومن ثمّ فإنّ الشعب اللبناني إذ يثور على "نظام الطائف" أو بالأحرى نظام الحرب الأهلية، ويرفضه ومعه رموز تلك الحرب من قادة الميليشيات وأمراء الحرب الذين يهيمون على الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، فهو ينعتق في الآن نفسه من "الثقافة" التي أفرزتها تلك الحرب ورعتها طبقتها السياسية.

فاللبنانيون واللبنانيات، بثورتهم هذه، يسقطون "ثقافة الحرب الأهلية" التي لطالما حرص رموز الطبقة السياسية على تغذيتها وإدامتها، عبر إثارة مخاوف كل لبنانيّ من "الآخر".

ورغم إزالة المتاريس وسحب المسلحين من على خطوط التماس وجبهات القتال، بقيت جذوة الحرب مشتعلة بتغلغل ثقافتها في أوساط العامة وأذهانهم. ففي الأجواء التعبوية القائمة على الخوف المزمن، والتي لم يكفّ الزعماء اللبنانيون يوماً عن استخدامها والاستثمار فيها، تراجع الحسّ النقدي وأصبح كل زعيم منقذاً وبطلاً في نظر "جماعته" رغم كل ارتكاباته وفساده. وعلى هذا النحو بات التعصّب للزعيم وللطائفة من ورائه إحدى سمات "السياسة" و"العمل السياسي" في لبنان، ومثلها اتهام "جماعات" الآخرين بالمسؤولية عن الأحوال السيئة التي تعاني منها "جماعتنا" خصوصاً ثم البلد بوجه عام.

 

المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة

"يسقط يسقط حكم العسكر" ... يتجدد مرة أخرى 

المزيد: ملف خاص حول المحاصصة الطائفية في لبنان

 

والحال أنّ أيديولوجيا صراعية نافية للآخر ومتوجّسة منه كهذه، إذ حكمت الناس ووجّهت سلوكهم لعقود، أدّت إلى تغييب الذاكرة الوطنية والمجتمعية المشتركة بين اللبنانيين لصالح ذاكرة انتقائية صنعتها آلة الدعاية الخاصة بكلّ طرف، مستحضرةً تفاصيل الحرب ويومياتها ومؤسطرةً رموزها، مع التأكيد على تمجيد الذات وشيطنة الآخر، بصورة تلغي كلّ مُشترَكٍ وعامّ لتحلّ محلّه خاصّاً متخيّلاً يتماهى مع طائفة بعينها، فيُرى الوطن من خلالها وتُفهَم المواطنة عبرها، وتتحقق المصالح عن طريق الزعيم الذي "يمثّلها".

 

[embed:render:embedded:node:37639]

 

تحقيق السلم والحفاظ عليه يتطلب إرادة مشتركة من قبل جميع الأطراف

غير أنّ هذا كلّه، أو معظمه، أصبح من الماضي أو يكاد بفعل الثورة اللبنانية وشعار "كلّن يعني كلّن" الشهير. والدليل أنّ إصرار ممثلي النظام وإعلامه على التخويف بالحرب الأهلية والتهويل من خطورة المظاهرات والتحركات الشعبية على "السلم الأهلي"، لم يثنِ الناس عن مواصلة الثورة، بل شكّل حافزاً إضافياً لهم للتمسّك بها وبسلميتها، لأنهم باتوا مدركين أنّ من ينهبهم ويتسبب بفقرهم ومعاناتهم هم أنفسهم سبب الحروب الأهلية.

والأهم أنّه بدلاً من تلك الذاكرة المفككة والمفخخة التي صنعها أمراء الطوائف وإعلامهم، يصنع اللبنانيون اليوم ذاكرتهم الجديدة في ساحات الثورة، بوصفهم مواطنين أحرار مستقلّين ومتساوين، لا كائنات طائفية موتورة تأتمر بأمر الزعيم. فهم اليوم، وقد وحّدتهم هموم ومشتركات اقتصادية وسياسية، يقفون صفّاً واحداً متماسكاً في وجه سلطة نهّابة فاسدة حرصت على تفرقتهم وتذريرهم.

من جنوب لبنان إلى شماله سلسلة بشرية ( 170 كلم) عابرة للمناطقية والطائفية ترمز إلى الوحدة الوطنية
وحدة وطنية ضد الفساد وآفة الطائفية البغيضة: نجح عشرات آلاف اللبنانيين الأحد 27 / 10 / 2019 بتشكيل سلسلة بشرية تمتد من شمال البلاد إلى جنوبها في إطار الحراك الشعبي المناهض للطبقة السياسية والذي لم يتوقف منذ 11 يوماً سابقة، في خطوة ترمز إلى الوحدة الوطنية التي تكرست خلال التظاهرات العابرة للطوائف والمناطق.

على مستوىً آخر، فإنّ اللبنانيين في أحد أوجه ثورتهم، يستعيدون السياسة ويعيدون الاعتبار لمعناها الحديث، بوصفها فاعلية مجتمعية تقوم على المصالح والغايات السياسية والاقتصادية للمواطنين لا على خلفياتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية، بعدما صيّرتها الطبقة السياسية اللبنانية سوقاً للصفقات والتسويات بين جماعات متحاجزة تنغلق داخل الهوس بهوياتها المتمايزة ومخاوفها، المتوّهم منها أو الواقعي الذي جرى تضخيمه. وبالفعل، حقّق المنتفضون أول أهدافهم بإسقاط حكومة الصفقات والتسويات، مع تأكيدهم على مواصلة تحرّكهم لإسقاط النظام الطائفي برمّته، ورفض أن يكون أيّ من ممثلي أحزابه وتياراته المختلفة في التشكيلة الوزارية المقبلة.

على أنّ ما سبق، برغم أهمّيته وثوريته، لا يعني أنّ ثورة اللبنانيين ستكون سهلة، سيّما وأنّ أطراف السلطة الأبرز مازالوا يمتلكون العديد من أوراق القوّة للضغط على الثورة ومحاولة تطويقها ثمّ إنهائها. لعلّ أخطر تلك الأوراق يكمن في الدفع المتعمّد نحو ضروبٍ من العنف والفلتان الأمني الذي يبرعون فيه وظهرت بعض بوادره فعلاً. فإنّ تطوّراً من هذا القبيل، وتصويره على شكل مواجهة بين "شارع مؤيّد" يغطي أفعال ميليشيات أقطاب النظام المدججة بالتعصب والعنف وأدواته ضدّ "شارع معارض" هو عصب الثورة ومحركها السلمي المدني، من شأنه أن يجعل التغيير أعلى كلفة وأشدّ صعوبة.

وليس خافياً أنّ قوى عديدة في الخارج لها مصالحها وأذرعها في لبنان لن تتوانى عن محاولة الاستفادة من المستجدات اللبنانية المتسارعة بغية توظيفها في صراعاتها الإقليمية على حساب اللبنانيين وثورتهم، وهو أمرٌ يعرفه اللبنانيون جيداً ولطالما دفعوا أثمانه الباهظة من دمائهم واقتصادهم ومستقبل أبنائهم.

لذا ينبغي الحذر ثم الحذر، لأنّه إذا كان تحقيق السلم والحفاظ عليه يتطلب إرادة مشتركة من قبل جميع الأطراف، وهو ما أثبته اللبنانيون المنتفضون من خلال تمسّكهم بسلمية ثورتهم، فإنّ تقويض السلام واستيلاد الحروب لا يحتاج لأكثر من فريق واحد يصرّ على الاحتكام إلى القوّة لفرض إرادته على الآخرين.

وفي ظلّ وجود فريق مهيمنٍ في السلطة لا يخفي تمسّكه بها، مشبع بالأيديولوجيا الإقصائية ويعتاش على الحروب والأزمات مفاخراً بقوّته العسكرية وانتصاراته "الإلهية"، ولم يجد يوماً أيّ حرجٍ من المجاهرة بارتباطه وولائه الخارجي وأولوية هذين الارتباط والولاء العابرين للحدود (أي اللاوطنيين)، كحال "حزب الله" وصلته بإيران، التي تتقدّم على أي صلة يمتّ بها إلى لبنان، فإن احتمالات حدوث سيناريوهات كارثية النتائج ستبقى مفتوحة على مصاريعها.

 

طارق عزيزة

حقوق النشر: قنطرة 2019

طارق عزيزة كاتب وباحث سوري.