من تحفيز الإصلاح إلى تقوية خصومه...الغرب والإصلاح الديني في الإسلام

لعلّ الكثيرين، ما إن وقعت أعينهم على العنوان تساءلوا: وما علاقة الغرب "المسيحي" بالإصلاح الديني في الإسلام؟! في حين أن الوقائع والأحداث التاريخية والمعاصرة تؤكّد وجود تلك العلاقة بصور مختلفة، إيجابية وسلبية، مباشرة وغير مباشرة. الكاتب طارق عزيزة يقدم في المقال التالي مناقشة سريعة ومكثّفة تسلّط الضوءَ على جوانب من دور الغرب وتأثيره في هذه القضية، سواء ما كان منه إيجابياً بصورةٍ ما خلال مراحل تاريخية مضت، أو دوره السلبي اللاحق.

الكاتب، الكاتبة : طارق عزيزة

هذا النص أقرب ما يكون إلى مقدّمة أو دعوة لتعميق التفكير في الموضوع، فلا ينشغل بالتعريفات والتأويلات وما يرتبط بكل مصطلح من إشكالات نظرية أو معرفية لشرحها أو نقدها، مثل تحديد معنى "الغرب" أو "الإسلام" أو "الحداثة" وغيرها، والمقصود هو الدلالات السائدة للألفاظ على نحو ما شاعت أو استقرّت في التداول، أي إنه استخدام "إجرائي"، إن جاز التعبير، لا يعني بالضرورة تبنّي معانيها الاختزالية السائدة، فكلّ منها يغطّي تحديدات متنوعة، خلافاً للنظرة التي ترى فيها جوهراً ثابتاً.

لم تكن الحقبة الاستعمارية شرّاً مطلقاً، فقد حملت معها إيجابيات عديدة إلى المجتمعات والبلدان، التي كانت هدفاً لغزو القوى الغربية. معظم الجوانب الإيجابية كانت نتاج ظروف موضوعية مختلفة، أبرزُها ما تطلّبته إدارة المستعمرات نفسها، وليست ناجمة عن اعتبارات أخلاقية أو إنسانية من تلك التي ادّعتها قوى النهب الاستعماري.

فالمستعمِرون، وإن راحوا يشرّعون لأنفسهم احتلال البلدان الأخرى ويبرّرون استغلالَهم الشعوبَ ونهبَهم الثروات بمزاعم نشر التمدّن رافعين شعارات التنوير والنهضة والحداثة وما ارتبط بها من المقولات البرّاقة عن التحديث والتقدم والنزعة الإنسانية العالمية، ونافقوا أيّما نفاقٍ في هذا الشأن، لكنّ تلك المقولات وصلت في النهاية إلى المستعمرات وفعلت فعلها، وإن حصل ذلك بأشكال وحدود متفاوتة للغاية بين تجربة وأخرى[1].

"صدمة الحداثة"

البلدان والمجتمعات التي شكّل العرب والمسلمون غالبية سكّانها، لم تكن استثناءً. وبدءاً من الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) وما تلاها، بدأت تتولّد قناعة جديدة مفادها أنّ أنماط الحياة والتفكير القديمة لا بدّ أن تتغيّر بما يتواءم مع العصر الحديث لمواكبة التقدّم، الذي كان يغذّ الخطا في الغرب على مختلف الأصعدة.

وليس أدلّ على ذلك من موقف الشيخ حسن العطار (1766-1835)، شيخ الأزهر الذي اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأبصر امتلاكهم لعلوم غريبة عن الواقع العربي، فأدرك أن التصدّي للتحدّي المفروض لا بد له من تغيير عميق وشامل، وعبر عن ذلك في كلماته الموجزة: "إن بلادنا لا بد أن تتغيّر، وأن يتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها"[2].

موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام: يعتبر المؤرخون المفكر جمال الدين الأفغاني  مصدر إلهام هام لحرکة الإصلاح والتجدید والثورة علی الاستعمار والتخلف في البلاد الإسلامیة والعربیة.
موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام: يعتبر المؤرخون المفكر جمال الدين الأفغاني مصدر إلهام هام لحرکة الإصلاح والتجدید والثورة علی الاستعمار والتخلف في البلاد الإسلامیة والعربیة.

وعلى خطاه، سار تلميذه رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، الذي رأى أن "الصلات التي عُقدت بين مصر وبين الحضارة الأوروبية، في عهد محمد علي، واحدة من أهم الإنجازات ولو لم يكن لمحمد علي فضل سواها لكفاه بها فخراً لأنها هي التي جددت شباب الأمة، وأعانتها على الانتصار على ذلك التحدي المتمثل في فكر العصور المظلمة"[3].

فإنّ الحداثة التي نمت وتطوّرت في أوروبا، بأسسها ومنجزاتها الفكرية والعلمية والتقنية، شكّلت حافزاً أساسياً لدى المتنوّرين المسلمين من أجل إطلاق محاولات النهوض والسعي إلى الخروج من وهدة التأخّر التاريخي المزمن، فهم إذ تلقّوا "صدمة الحداثة"، عكفوا على التفكير في واقعهم وأحوالهم وسبل تطوّرهم من منظورها وبدلالتها.

ولمّا كان "الإصلاح الديني" واحداً من العتبات الأساسية الأولى التي مهّدت لنهضة أوروبا وحداثتها، وإدراكاً منهم لهذه الحقيقة، شرع المثقفون الإصلاحيون المسلمون في الدعوة إلى "إصلاحٍ دينيِّ" في الإسلام، متأثّرين بالإصلاح اللوثري بشكل خاص.

وقد لاحظ عزيز العظمة أنّ "المصلحين الإسلاميين العرب الأوائل كمحمد عبده (1849-1905) وعبد الرحمن الكواكبي (1854-1902)، وغيرهما قد اندرجوا في فهم عالمي مستجد للدين متأثّر أيّما تأثر بالنحو البروتستانتي في تصور واستيعاب الدين وشؤونه"[4].

ومن الأمثلة التي تؤكّد هذه الفكرة، قول المصلح الشهير جمال الدين الأفغاني (1838-1897): "إننا لو تأمّلنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدنية نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمّت على يده؛ فإن هذا الرجل الكبير لما رأى شعوب أوروبا زلّت وفقدت شهامتها من طول ما خضعت لرؤساء الدين ولتقاليد لا تمت بصلة إلى عقل أو يقين قام بهذه الحركة"[5].

التأثر بالغرب دعم فكرة "الإصلاح الديني" في الإسلام

ما سبق يبيّن كيف أنّ دور الغرب وتأثيره في ما مضى كانا إيجابيين إلى حدّ كبير دفع باتجاه فكرة "الإصلاح الديني" في الإسلام، وإن لم يكن ذلك في شكل مقصود أو مباشر. غير أنّه ابتداءً من أواسط القرن الماضي سيتّخذ الغرب مواقفَ تفضي إلى آثار بالغة السلبية في هذا الشأن، فيسهم بصورٍ مختلفة في تعطيل إمكانات الإصلاح الديني عبر تقوية خصوم هذ الإصلاح. ذلك أن القوى الغربية من أجل الحفاظ على مصالحها في "العالم الإسلامي"، لا سيما خلال حقبة الحرب الباردة والهوس بمكافحة "الخطر الشيوعي"، تبنّت لفترات طويلة سياساتٍ تقوم على دعم ورعاية فئتين أساسيتين من الحلفاء في المنطقة، والاعتماد عليهما: أنظمة الاستبداد من جهة، والجماعات الإسلامية من جهة أخرى، الأمر الذي عزّز من قدراتهما وكرّس دورهما معاً.

وإذ لم تتوقّف الشراكة الغربية حتى اللحظة مع مختلف الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي، فإنّ "شهر العسل" الغربي مع الإسلاميين كان بلغ ذروته خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حين قدّمت "الديمقراطيات الغربية" مختلف أشكال الدعم لبعض أشدّ الإسلاميين تطرّفاً في حربهم ضدّ "الاتحاد السوفييتي الكافر" في أفغانستان، مما ساهم في انتشار أفكار "السلفية الجهادية". ذلك أنّ "التيار الجهادي" ازداد قوّة نتيجة الخبرات الميدانية العسكرية والتنظيمية، وقنوات الدعم الماليّ والإعلامي الهائلة التي أتيحت له أثناء "الجهاد الأفغاني"، والذي مدّه أيضاً بالمزيد من التعصّب الديني والتصلّب الأيديولوجي.

قبر المفكر الأفغاني جمال الدين الأفغاني
هل يحتاج الإصلاح الديني لـ"مارتن لوثر إسلامي"؟

وبعد أن غادر قسم كبير من "المجاهدين" أفغانستان حاملين رؤاهم الأيديولوجية وخبراتهم إلى "ساحات جهادية" أخرى؛ انقلب السحر على الساحر، وبات داعمو "الجهاد" ورعاته السابقين ضحايا له في عقر دارهم.

إنّ دعم الغرب لأنظمة الاستبداد والجماعات الإسلامية، يعني دعم الفئتين الأكثر ممانعةً ورفضاً لأيّ إصلاح دينيّ قد يطال الإسلام والأكثر ممانعةً، من ثم، لأي إصلاح سياسي. كلتاهما تمزجان الدين والسياسة لخدمة أهدافها السلطوية، كما تتلاعبان بالمسألة الطائفية للغاية ذاتها، وكل ذلك عبر تكييف كل منهما للدين ونصوصه على النحو الذي يوافق مصالحها، لذا تجدها حريصةً كلّ الحرص على انتشار أشكال التديّن الأكثر تخلّفاً وامتثاليةً وتعصّباً بهدف تسهيل عملية سوق الجموع في الوجهة المطلوبة.

هذا الأمر سيعيق لا محالة كلّ مبادرة لإصلاح إسلامي يفضي إلى "عقلانية دينية قاطعة مع إيمان العجائز المطلق والساذج"، وفق تعبير العفيف الأخضر، وهو قصد بالعقلانية الدينية "قبول مؤسسات وقيم العالم الذي نعيش فيه. وخاصة اعتناق الدين العلماني العالمي، دين حقوق الإنسان، المناسب لجميع الديانات، شرط أن تحترم قيمه الكونية"[6].

تبقى الإشارة إلى أنّ دور الغرب السلبيّ لم يقتصر على سياساته في "العالم الإسلامي"، وإنما كذلك في بعض السياسات الداخلية تجاه المسلمين، لا سيما بعد تولّي التيارات اليمينية الشعبوية السلطة في العديد من الدول الأوروبية (وسياسات دونالد ترامب في الولايات المتحدة). فهذه التيارات التي تستحوذ حالة من "الإسلاموفوبيا" على تفكيرها، تعمل على تضخيم خطر "التطرّف الإسلامي"، ليس من باب التبنّي الأيديولوجي لأفكار صموئيل هنتنغتون عن "صراع الحضارات" والمواجهة الحتمية بين الغرب والعالم الإسلامي فحسب، وإنما، وبشكل أساسي، لتبرير تطرّفها القومي وعنصريّتها تجاه اللاجئين والمهاجرين، وبخاصّة ذوي الأصول الإسلامية.

إنّ إصرار بعض القوي في "الغرب" على ربط الإسلام بالتطرّف والإرهاب والنظر إلى كل مسلم بوصفه "سلفياً جهادياً" محتملاً، يصبّ الماء في طاحون الجهاديين الفعليين، لأنّ خطاباً من هذا النوع سيدفع بالكثير من اللاجئين والمهاجرين الشباب المسلمين إلى التطرّف، نتيجة لما يولّده لديهم من إحباط وغضب، وبالتالي سيصبح هؤلاء صيداً سهلاً للتنظيمات المتطرفة، التي ستعمل على استقطابهم مستغلّة غضبهم وإحباطهم، خاصّة وأنّها تعتبر نفسها الصورة الأنقى للإسلام.

من المؤكّد أنّ كل مكسب تحقّقه قوى التطرّف الإسلامي، تنظيمياً أو جماهيرياً، يجعل من مهمّة الإصلاح الديني في الإسلام أشدّ صعوبة. غير  أنّ النهوض بهذه المهمّة وكذلك المصلحة المتأتية عنها لم تعد محصورةً بالمسلمين، وإنما بات يرتبط قسطٌ وافرُ منها منها بالغرب، ليس من باب الكفّ عن دوره السلبي المشار إليه فقط، وإنما لأنّ المشكلة تمسّه مباشرة أكان ذلك لاعتبارات عصر العولمة وتشابك مصير العالم، أو لأنّ الأمر أصبح يشكّل في أحد جوانبه شأناً غربياً داخلياً، وسيكون لنا في هذا نقاش قريب.

 

طارق عزيزة

حقوق النشر: قنطرة 2018

طارق عزيزة كاتب سوري من مواليد مدينة اللاذقية 1982، مجاز في الحقوق من جامعة دمشق – 2006. عملَ أستاذاً ومحاضراً في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ببيروت (IFPO)، وباحثاً في مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية. له العديد من المؤلفات، منها: "جبهة النصرة لأهل الشام" 2013، و"العلمانية" 2014، وعشرات المقالات والدراسات المنشورة في مجلات وصحف ومواقع إلكترونية عربية وأجنبية.

 

[1] في هذا الإطار، يمكن الاطلاع، مثلاً، على كتاب ياسين الحافظ: "التجربة التاريخية الفييتنامية – تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية".

[2] محمد عمارة: العرب والتحدّي، سلسلة عالم المعرفة (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مايو 1980). النسخة الرقمية، ص151

[3] المصدر نفسه، ص153

[4] عزيز العظمة: الإصلاحيون النهضويون وفكرة الإصلاح في المجال الديني. مجلة المستقبل العربي (السنة 39، العدد 455، كانون الثاني/يناير 2017).

[5] عبد القادر المغربي: جمال الدين الأفغاني ذكريات وأحاديث، الطبعة الثالثة (دار المعارف، القاهرة، د.ت). ص 98

[6] العفيف الأخضر: إصلاح الإسلام، حاوره ناصر رجب ولحسن وريغ، الطبعة الثانية (منشورات الجمل، بيروت - بغداد، 2014)، ص 19