
من قرطبة إلى بغداد - الفقيه "الأمازيغي" المصلح ابن تومرتعمّن غيّر بِعَصاه وجه العالم الإسلامي
كان هدفه إقامة خلافة إسلامية كبرى تضم جميع بلاد العالم في القرن الـ 12 الميلادي. لم تغب عنه صورة حرق كتب الغزالي في قرطبة. فغادر الأندلس ليستكمل دراسته في المشرق الإسلامي. ثم عاد إلى بلاد المغرب واضعاً الأساس -بأفكار ثورية مستخدِمة للقوة- لدولة كبرى مترامية الأطراف. الباحث محمد يسري يعرفنا بالمؤسس الروحي لمملكة الموحدين "الأمازيغية": ابن تومرت، مفجِّر إحدى أكبر ثورات التاريخ الإسلامي.
بعد سنوات قلائل من ترحاله لزيارة الأندلس ثمّ المشرق الإسلامي، يقفل ابن تومرت عائداً وحده إلى بلاده [في بلاد المغرب]. الشاب البسيط الذي خرج قاصداً تحصيل العلم والمعارف، يعود مرة أخرى إلى صحراء السوس القاحلة.
متوكئاً على عصاه الخشبية، يحط الفقيه الرحالة أثقاله بالقرب من شطآن المحيط الأطلسي، بعد أن وصل في أسفاره لتخوم الخليج [العربي]الفارسي. ومع عودة الغائب، تستعد بلاد المغرب لدخول عهد جديد من عهود تاريخها المجيد، عهد مميز شهد تكوين إمبراطورية كبرى وضع أساسها ذلك الشاب صاحب الطموحات التي ليس لها حدود.
من المغرب، توجه ابن تومرت إلى الأندلس التي كانت حواضرها ومدنها بمثابة مراكز علمية ودينية مهمة يتطلع طلاب العلم للدراسة في معاهدها ومدارسها الكبرى.
وفيها قصدَ قرطبة، حاضرة العلم والمعرفة والعاصمة القديمة للدولة الأموية، فقضى فيها فترة من الزمن، ودرس على يد عدد من علمائها المعروفين المشهورين مثل القاضي "ابن حمدين" الذي كان من أكبر علماء الأندلس في ذلك الوقت.

ابن تومرت: وُلِدَ عام 1077 ميلادية في السوس جنوبي المغرب، وهو مؤسس الحركة الموحدية. اُخْتُلف في نسبه، فمنهم من جعله أمازيغياً من القبائل البربرية، ومنهم من وصلوا بنسبه إلى الرسول العربي. كان هدفه إقامة خلافة إسلامية كبرى تضم جميع بلاد العالم بشرقه وغربه، في القرن الـ 12 الميلادي. توفى "المهدي" بن تومرت في تينمال عن عمر يناهز الخمسين عاماً، ليخلفه في قيادة حركته تلميذه الوفي عبد المؤمن بن علي، الذي استطاع أن يحولها إلى دولة عظيمة ضمت المغرب والأندلس، وعُرفت في التاريخ باسم الدولة الموحدية الكبرى.
وفي قرطبة وقعت حادثة هامّة، أثرت كثيراً في تشكيل مستقبل ابن تومرت، ذلك أنه عاصر ثورة رجال الدين على كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وشاهد كيف استطاع هؤلاء العلماء الذين يقودهم ابن حمدين في استصدار أمر من الأمير علي بن يوسف بحرق هذا الكتاب في ميادين قرطبة.
ويبدو أن الخط الفكري لابن تومرت قد تغير تماماً بعد هذه الواقعة، فقد رفض استكمال الدراسة على يد علماء الأندلس وقرر أن يولي وجهه تجاه المشرق الإسلامي ليطلب العلم على يد علمائه الكبار.
كانت مصر هي أولى محطات الشاب السوسي في رحلته، حيث استقر في الإسكندرية واعتاد على حضور دروس الإمام أبي بكر الطرطوشي، وسمع منه كتابه سراج الملوك الغني بالحديث عن السلطة والحكم وحتمية أن تقام الدولة الإسلامية على العدل والمساواة.
بعد اقتناعه بتلك الأفكار الثورية، توجه إلى أرض الحجاز حيث أدى فريضة الحج، وبعدها اتجه نحو بلاد الشام متخذاً منها طريقاً للعراق.
وفي بغداد، قابل ابن تومرت عدداً من كبار علماء الإسلام، وقيل إن أحدهم كان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وتؤكد بعض المصادر التاريخية أن الغزالي، قد أثر كثيراً في فقيه السوس الأقصى.
ويذكر المؤرخ ابن أبي زرع الفاسي في كتابه روض القرطاس، أن الغزالي قد سأل تلميذه يوماً، عن مكانة كتابه الإحياء في المغرب، فأجابه ابن تومرت بأنه قد تم إحراقه على مرأى ومسمع من الجميع في قرطبة.
يكمل ابن أبي زرع أن الغزالي غضب لسماع ذلك، ودعا على المرابطين بأن يُذهب الله ملكهم، فطلب منه ابن تومرت أن يدعو بأن يتحقق هذا الدعاء على يده، فوافق الغزالي.
هنا تنتهي رحلة ابن تومرت، ويبدأ في تجهيز نفسه للعودة إلى وطنه، ولكن ابن تومرت الذي كان راجعاً إلى السوس الأقصى لم يكن هو نفسه الشاب البسيط الذي خرج منه منذ بضع سنين.
محمد ابن تومرت الذي ولد في حدود عام 473 هـ، في قبائل المصامدة، تلك التي كانت مستقرة في بلاد السوس الأقصى الواقعة جنوب دولة المغرب الحالية، بدأ حياته متواضعاً بسيط الحال.
ولكن شاءت الأقدار أن يضحي بعد بضع سنين مفجراً لثورة من أعظم الثورات التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأن يصبح واضعاً لأساس دولة كبرى مترامية الأطراف.
رجع ابن تومرت من المشرق وفي عقله ثلاثة أفكار تسيطر عليه سيطرة تامة، الأولى فكرة ثورية، والثانية نبوءة الغزالي له، أو إن لم يكن قد التقاه، لم تغب عنه صورة حرق كتب الغزالي في قرطبة بمباركة المرابطين، أما الثالثة فكانت روح دينية قوية اعتملت في قلبه وعقله.
الصفحات
اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة
هل أسهم الإمام الغزالي في تخلف المسلمين الحضاري؟التنوع البشري في المغرب - على وادي درعة جلست الثقافات وغنّت
ملفات خاصة من موقع قنطرة