
أبو حامد الغزالي وتقويض منهج التفكير العلمي في الحضارة الإسلاميةهل أسهم الإمام الغزالي في تخلف المسلمين الحضاري؟
كُتِبَ الشيء الكثير حول العصر الذهبي للبحث العلمي العربي بين عامَي 800 و 1100 ميلادية. وهي الفترة التي حمل فيها العالَم الإسلامي مشعل التجديد والابتكار العلمي الذي عاد بالفضل على أوروبا خلال عصر النهضة وعصر التنوير.
وحين ينظر المرء إلى العالم الإسلامي المعاصر يتبدى له الوضع المخيب للآمال الذي وصل إليه التطور العلمي. فعدد الكتابات العلمية التي تصدرها الهند وإسبانيا تفوق عدد ما تصدره الدول الإسلامية مجتمعة (57 دولة). إذ لا تتجاوز نسبة مساهمة الدول الإسلامية من الابتكارات العلمية على الصعيد العالمي واحد في المئة، وهي نسبة ضئيلة ورديئة الجودة في الغالب الأعمّ.
فأين يوجد الخلل؟ سؤال ذو أهمية كبيرة قبل أي وقت مضى، خصوصا بعد عودة الدين إلى الواجهة في منطقة الشرق الأوسط خلال الربيع العربي بشكل جعل صعود التيارات الإسلامية نتيجة حتمية.
العصر المزدهر للإسلام في ظل الحكم العباسي بين 749 و1258، حيث كان العلوم الإنسانية والطبيعية مزدهرة بشكل كبير خصوصا في عاصمة العباسيين بغداد التي كانت محور ساحة للبحث العلمي والتعليم.
رفض الفلسفة كمصدر وحيد للحقيقة
ادعى الفلاسفة ولمدة طويلة أن عاِلم الدين الكبير أبو حامد الغزالي (1055 ـ 1111) هو الذي وقف وراء فصل الثقافة الإسلامية عن البحث العلمي المستقل وتوجيهها في اتجاه التشدد.
ويرى منتقدو الغزالي ـ أو "الغازل" كما كان يُطلَق عليه في القرون الوسطى في أوروبا ـ أنه أثر بشكل كبير في تغيير مجرى التفكير في العالم الإسلامي من خلال ادعائه أن الفلسفة (التي تتضمن أيضا علم المنطق والرياضيات والفيزياء) تتعارض مع الدين الإسلامي.

ووفقاًً للمنتقدين المعاصرين، فبعد إصدار الغزالي لكتابه "تهافت الفلاسفة" فقد قام بشكل من الأشكال بتهميش الفلسفة لدرجة أصبح فيها من الصعب إرجاعها إلى موقعها الريادي السابق في العالم الإسلامي.
ولأن الغزالي كان ـ وبدون منازع ـ متمكنا في علم الكلام والفلسفة، فقد نشر الكراهية، كما يرى منتقدوه، تجاه العلم بين المسلمين، ما دفع في نهاية المطاف إلى انحطاط وتدهور الحضارة الإسلامية. ويشترك العديد من الأكاديميين والمستشرقين منذ أكثر من قرن هذا الطرح تجاه الغزالي، لكنه طرح خاطئ من وجهة نظري.
صحيح أن الباحثين مُحقّون في تحديدهم للقرن الحادي عشر الميلادي كلحظة بداية ابتعاد المسلمين عن التطور العلمي، لكنهم في المقابل مخطئون في الشخص الذي يحملونه مسؤولية ذلك، إذ لم يكن الأمر يتعلق بالغزالي بل في واقع الأمر بنظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي (1018ـ 1092) المعروف باسم "نظام الـمُلك" الذي كان وزيرا في الدولة السلجوقية.

أحدثَ نظام الملك نموذجا تعليميا عُرف بـ"المدارس النظامية" التي ركزت على الدراسات الدينية على حساب البحث العلمي المستقل، ليتم ـ ولأول مرة في التاريخ الإسلامي ـ مأسسة الدراسات الدينية، وأصبح يُنظر إليها كمصدر ربح مادي. في حين كان البحث العلمي والشريعة الإسلامية قبل ذلك يعتبران مبحثين منصهر بعضهما في بعض.
حركة مضادة تدافع عن التفكير العقلاني
لم تكن المدارس النظامية تركز على الدين فقط، فالأكثر من ذلك أنها اعتمدت في برامجها الدراسية على تأويل سني صارم للفقه الإسلامي يستند على المذهب الشافعي. وهو اختيار لم يتم اعتباطا. فالمذهب الشافعي ركّز على أصول ومبادئ الشريعة ولم يقبل بالمسلك العقلاني الذي حظي بزخم دافع خلال فترة حكم الأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد.
وإبان فترة حكم السلاجقة بدأ التوجه الشيعي يحظى بمكانة مهمة. وأما ما يُطلَق عليه بالمذهب الباطني، الذي كانت لأتباعه تأويلات فلسفية للقرآن والسنة، فقد كانوا ينشطون في العراق وسوريا ومصر. وكان الهدف من وراء إنشاء المدارس النظامية ـ التي درَّس فيها الغزالي لفترة محدودة وغادرها لاحقا ـ هو مواجهة التيارات غير السنية التي كانت وقتها بصدد الانتشار.
أقيمت المدارس النظامية في أهم المدن التي كانت تحت سلطة العباسيين والسلاجقة كبغداد وأصفهان وفي المناطق التي يشكل فيها الشيعة غالبية السكان كالبصرة ومنطقة الجزيرة السورية. وترك العديد من الطلاب مدارسهم وشدوا الرحال إلى تلك المدن لمتابعة الدراسة. فصار العديد من الطلاب أكثر ميولا إلى تعاليم المذهب الشافعي وهو ما انزعج منه بعض رجال الدين من المذاهب السنية الأخرى.

وحظي خريجو تلك المدارس النظامية بالأولوية في توزيع المناصب الحكومية خصوصا في مجالات العدالة ومؤسستي الحسبة والفقه. وشكلت تلك المدارس في القرن الـ 12 الميلادي مؤسسات لنخبة القوم. وكانت تُلقَّن فيها للخريجين مهارات الإقناع والحجج ليكونوا مستعدين على الدوام لمواجهة أتباع المذهب الباطني.
وقادت تلك المدارس النظامية ـ لقرابة أربعة عقود ـ المسلمين إلى اِتّباع "الطريق المستقيم للدين"، بدعم مالي وسياسي من حكام دولة السلاجقة. وهو نفس النهج الذي سارت على دربه الأنظمة الحاكمة التي تلت فترة حكم السلاجقة.
ومما لاشك فيه أن عوامل أخرى لعبت دورا في انحطاط البحث العلمي في العالم الإسلامي. فالدولة العباسية التي اُعتبرت بمثابة راع للبحث العلمي تدهورت أوضاعها الداخلية وتفكك العالم الإسلامي إلى أجزاء. وكنتيجة لذلك، تراجعت ثقافة التسامح الديني بشكل كبير وفقد البحث العلمي أهميته بشكل واضح.
نقد "المؤمنين المقلدين"
وفي الواقع فالغزالي كان يهدف من خلال نقده للفلسفة إلى تشجيع التفكير النقدي. ويُعتَبر أول عالم دافع عن فصل العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، وقال إن بعض الأصوليين رأوا أن الفلسفة لا يمكن فصلها عن الدين واتجهوا نحو رفض جميع أصناف الفلسفة بما في ذلك حقائق علمية كخسوف القمر وكسوف الشمس.
ووصف الغزالي هؤلاء الأصوليين بكونهم "مؤمنين مقلِّدين، يَقبلون ـ وبتسرع ـ حقائق مغلوطة دون التحقق من صحتها أو التحري في مصداقيتها".
وغالبا ما يُنظَر في البحوث الحديثة إلى الغزالي باعتباره عالما مُعرِضاً عن العلم، لكنه لا يوجد عالم واحد في تلك الحقبة التي عاش فيها الغزالي ينتقد العلم بسبب تأثير محتمل من الغزالي. فالعكس هو الحاصل تماما. وحتى معاصرو الغزالي لاحظوا أنه بقي وفيا للفلسفة حتى وفاته. ويلخِّصون نظرتهم إليه بالقول "معلمنا تَشَرَّب الفلسفة لدرجة صَعُب عليه بصقها".
وفي المقابل همشت المدارس التجديد والابتكار العلمي من خلال تركيزها على الدراسات الدينية لخدمة أهداف سياسية. وهو نهج لايزال تأثيره ساري المفعول إلى يومنا هذا. أما رجال الدين السنة فهم يمدحون الدور الذي يقوم به الواقفون وراء تلك المدارس في الإسلام السني.
حسن حسن
ترجمة: عبد الرحمان عمار
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
حسن حسن كاتب عمود في جريدة الوطن في أبوظبي. ويكتب في جرائد أخرى كـ"الغارديان" و"فورين بوليسي" و"غارنيجيه إندومانت".
تعليقات القراء على مقال : هل أسهم الإمام الغزالي في تخلف المسلمين الحضاري؟
بالعكس للغزالي دور كبير اذا قرات كتابه في الشك سترى انه انكر كل تلك العلوم بعد ان تعلمها وقال انها مجرد لعب بالكلام
محمد17.08.2013 | 22:58 Uhrلقد بنيت استراتجية نظام الملك السلجوقي على نشر المذهب الشافعي و العقيدة الأشعرية. و هما زيادة على التصوف يكونان الثلاثية المقدسة التي أنتجها فكر الغزالي رحمه الله.
هذه الإستراتيجية أتت أكلها لما دخل الأيوبيون مصر الفاطمية، التي كان شعبها على المذهب المالكي. و حملوا الأزهر أن يبدل مذهبه من المالكية إلى الشافعية، و من الإعتقاد السني العام إلى المذهب الأشعري. و كان لشيخ السلطان صلاح الدين الأيوبي، قطب الدين أبو المعالي مسعود النيسابوري، خريج المدرسة النظامية بنيسابور، أعظم الأثر في ذلك، فهو الذي خط بيده العقيدة التي كان يؤمن بها صلاح الدين و أولاده، و التي حمل عليها المصريين من بعد.
لماذا لم يذكر الكاتب حسن حسن ذلك؟
لماذا اسثناء العقيدة الأشعرية و إلقاء كامل المسؤولية على الفقه الشافعي؟
المعلق الرياضي01.09.2013 | 02:20 Uhrالشافعي ولد سنة 150 اي بعد سقوط الامويين بما يقارب العقدين من الزمن ثم أن العباسيين ما تبنوا فكر الشافعي إلا في عصر المتوكل اي بعد قيامهم بمئة سنة و تحولوا للتشيع بعد ذلك
همام27.12.2013 | 13:46 Uhrالاسباب هنا غير مقنعة ومشتتة وإن اردت الحق فالفلسفة وأدت بتمكن وتغلغل الفكر الوهابي داخل العالم الإسلامي ﻷنها مدرسة تعتبر الجهل المشترك بيئة خصبة لها.
القوم حتى تعلم علمهم، وهو الفارس المغوار الشديد الصولة، ثم خرج على الناس بفقه السلوك مقَعَّدا مرتبا. فَكان لكتاباته، ولا يزال، الأثر البالغ في تعليم الأجيال من بعده. خاصة لكتابه "الإحياء" الذي قيل عنه: "من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء". واختلف بعض الناس في تقويم الإحياء، فأحرقه علماء المغرب بعد وصوله. ورد عليهم ابن السبكي بعد نحو قرن ونصف بعد أن رحب بعودة المغاربة إلى تبجيل كتب الغزالي فقال: "وأين نحن ومن فوقنا وفوقهم من فهم كلام الغزالي أو الوقوف على مرتبته في العلم والدين والتأله! وقال: "لا يعرف أحد ممن جاء بعد الغزالي قدر الغزالي ولا مقدار علم الغزالي، إذ لم يجئ بعده مثله. ثم إن المُدَانِيَ له إنما يعرف قدره بقدر ما عنده، لا بقدر الغزالي في نفسه".
أحمد المشير25.05.2014 | 20:39 Uhrإسأل عن الاسلام قبل ان تهاجمه
علي حامد25.05.2014 | 20:39 Uhrلكل شعائر الإسلام حكمة مبينة
الأمازيغ الفرس الأفارقة العرب .......
لا فرق بين عربي و عجمي إلاّ بالتقوى
كلامك لا يخرج عن اطار هوس الاسبقية الذي يسيطر على شعور المسلمين ، كلما اشتموا رائحة ظهور مصطلح او مفهوم جديد في ميدان العلم والمعرفة الا وهرولوا الى كتبهم بحثا له عن مرادف ،ان لم يجدوه يوجدونه رغما عنه ليقولوا نحن سباقون الى هذا، رغم التخلف البادي على وجوههم .
الطوسي25.05.2014 | 20:40 Uhrالشك عند ديكارت ليس هو الشك عند الغزالي ، الاول كان بهدف اثبات جوهرية العقل في التفكير والوجود ، اما الثابي فكان العكس تماما ، اجهاض كل ما هو عقلاني احياء لكل ما هو ديني ، تدعيات تخريفات الغزالي ما تزال بادية للعيان الى يومنا هذا ، اما الشك الديكارتي فقد انتهى به الى تأسيس فلسفة الوعي بالذات "je"التي اخرجت الغرب من ظلمات الفكر اللاهوتي الذي أغرق الانسان في "on" التي تعني كل شيء ولا تعني شيئا بالتحديد .
مقال رائع ، وفي رأيي فإن الغزالي كما تفضلتم قد ساهم فعلا في تحضر ورقي المسلمين الحضاري ولم يكن أبدا مساهما في تخلف أو انزلاق عقول أمته في مدارك التخلف ، وإنه لعار علينا أن نلصق هذه التهمة بهذا العظيم ، وما كتاباتـه " مقاصد الفلاسفة " و " تهافت الفلاسفة " إلا رد لازم لدحض بعض الشبهات العقدية في ميدان الفلسفة فقط ليس إلا . ويبقى الغزالي فيلسوفا رغم نقده للفلسفة ، وكذا عالما ربانيا متصوفا كما تجلى في مساهمته العظيمة في " إحياء علوم الدين " حين كادت نفوس القوم تغرق في مهاوي الغفلة .
شكرا لكم
وليد بنفارس25.05.2014 | 20:44 Uhrالمقال رائع بعد اذن حضرتك ممكن تكتب مقال ثانى تفيدنا اكثر من حياة الامام الغزالي
Anonymous13.06.2014 | 02:04 Uhrيوجد منهج الشك لدى كثير من الفلاسفة ، وهذا طبيعي لأنه ناتج من التساؤل الذي تدعمه الفلسفة لانطلاق الفكر من أجل هدف معرفي .
ج ج26.02.2015 | 22:06 Uhrوإذا كان كلا من الغزالي وديكارت قد مارسا الشك فإنه لا يمكن الانطلاق من ذلك للمقاربة بينهما ، وليس كل من مارس الشك يعتد بنتيجة أعماله .
والغزالي ابتدأ الشك وانتهى بهدف ضد العقل والفلسفة والفلاسفة ، وبالتالي فقد أعتمد في نهاية حياته على الظن وهاجم عقل الإنسان وفلسفته بشكل تعميمي من مبدأ ديني غيبي يختلف كثيرا عن الدور الفلسفي .
وأما ديكارت فقد سار بالشك نحو منهج هادف وتوصل إلى علوم وحقائق بالإضافة إلى إثباته لدور عقل الإنسان في اكتشاف الحقائق المتنوعة ، لذا فإن ديكارت لا يمكن مقارنته بمن هدفه الهدم من خلال الشك كما فعل الغزالي .
قرأت كتابا بعنوان "جناية الشافعي" حيث أثار فضولي هذا العنوان. ومن طبعي أن لا أرفض قراءة أي شيء مهما كان خلافا لرأي معظم المشايخ. وجدت في الكتاب كثيرا من الأمور التي يعتمدها فقهاؤنا ودور الفتوى دون أي تفكير هي من أسباب مصائبنا فعلا. ولا ألوم الشافعي كما لامه المؤلف وجرّمه لأن الشافعي انسان عادي وليس معجزة كما يصوروه، أصاب وأخطأ. والمصيبة فينا نحن حيث أخذنا فقهه دون تفكير. فهو مثلا يجعل دية المرأة نصف دية الرجل(!!) قياسا على حكم الميراث وهذا خطأ فاحش. كذلك جاء بأحكام شاذة كبطلان صلاة الرجل اذا مر من أمامه كلب أو امرأة. كذلك في الميراث فقد حرم أصحاب حقوق أولى من غيرهم وأعطاها لهذا الغير. وهناك الكثير من المخالفات لأحكام القرآن ولا مجال للتوسع في ذكرها. والشافعي نفسه كان يقول "رأيي صواب ويحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" أما مشايخنا فاعتبروا رأيه هو كل الصواب وقننوه وظلموا به من ظلموا. فالعيب في مشايخنا وفي الأزهر الذي أغلق باب الاجتهاد واعتبر الأئمة الأربعة كأنبياء يجب أن نتبع أحدهم أو غيره دون تفكير، تماما كما فعلوا في البخاري حيث قدسوه وقدموه على القرآن عمليا ولو ادّعوا عكس ذلك. والحل في رأيي هو العودة للقرآن وللعقل والتعقّل. القرآن نزل بلغتنا التي نفهمها كما فهمها الأولون وهم ليسوا بأفضل وأعلم منا والعكس هو الصحيح لأن لدينا العلم ووسائل البحث العلمي أكثر منهم بكثير.
م. محمود صبري04.03.2015 | 14:18 Uhrالصفحات