أدونيس: أنا مع الحراك الثوري في سوريا مهما كانت النتائج

تسلم الشاعر الكبير أدونيس جائزة غوته التي تمنحها مدينة فرانكفورت كل ثلاث سنوات في ذكرى ميلاد أشهر شعراء ألمانيا. وبهذه المناسبة حاورت منى صالح الشاعر أدونيس الذي تثير مواقفه من الاحتجاجات الشعبية في سوريا جدلا قويا.

الكاتبة ، الكاتب: Khaula Saleh



أدونيس بأي مشاعر تلتقي ألمانيا من جديد بمناسبة تسلمك جائزة غوته؟

أدونيس: أن آتي بهذه المناسبة إلى ألمانيا مجددا أمر يسعدني كثيرا لأنني أحفظ ذكرى عميقة جدا أثناء إقامتي في معهد الدراسات المتقدمة في برلين، وأشعر أنني عميق الصلة بالأدب الألماني وبالفكر الألماني. وهذه الجائزة تجعلني أشعر تماما كما كان غوته يقول: تراث الشاعر اليوم لا يجوز أن يكون منحصرا في تراثه الخاص إنما تراثه هو تراث العالم، وبالنسبة إلي، التراث الألماني الأدبي والفكري هو في مقدمة هذا التراث الكوني.

لنعد إلى الأحداث في سوريا، التي أثارت مقولاتك فيها الكثير من النقد، فالشاعر، خاصة إذا كان من هذا المقام الرفيع، يكون عليه، شاء أم أبى، محاكاة مشاعر أبناء مجتمعه. فهم يتطلعون إليه سائلينه أن ينقل همومهم وأحاسيسهم، فإن هو نفى عقلهم ومقدرتهم على فعل الصواب يصابون بخيبة أمل ويشعرون بأن مشاعرهم قد وُجهت إليها ضربة في الصميم، فهل يمكننا أن نقول إن شيئا من هذا القبيل قد حدث بين أدونيس والمحتجين في سوريا؟

الصورىة د ب ا

​​موقفي المناوئ والمعارض للنظام القائم ليس وليد هذه الاحتجاجات إنما هو يرجع إلى عهد قديم. فمنذ حوالي 50 سنة وأنا في صراع متواصل مع ديكتاتورية النظام القائم، لذلك أنا بالطبيعة وتلقائيا ضده، إنما قد نختلف في طرق المعارضة. أنا لا أحبذ طرق العنف بجميع أشكالها مهما كانت مسوغة بحسب أصحابها، لا من جهة النظام أطيقها وقد رفضتها باستمرار ولا من جهة من يعارض هذا النظام. فأنا مع المعارضة السلمية، معارضة على الطريقة الغاندية، وممكن أن نختلف في هذا مع المعارضين اليوم، فهم يريدون الأشياء بطريقتها المباشرة، كأنها الوجه الآخر لعنف السلطة. أنا أعتقد أن المعارضة يجب أن تؤسس لأخلاقية جديدة ولقيم جديدة، كي تستطيع أن تبني مجتمعا جديدا، هذا شيء قد نختلف فيه.

الشيء الثاني هو أن أي معارضة بالنسبة إلي في مجتمع كالمجتمعات العربية، إذا لم تقم صراحة على تجاوز السلطة إلى بناء مجتمع جديد لا تكون بالنسبة إلي ذات أهمية، يعني الأساس ليس أن نغير السلطة، إنما الأساس أن نغيرها كي نبني مجتمعا جديدا. ولكي نبني مجتمعا جديدا لابد من الوضوح الكامل. لا يمكن بناء مجتمع جديد في سوريا ولا في أي مجتمع عربي آخر إلا بالفصل الكامل بين الدين والدولة على جميع المستويات الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وخطاب المعارضة حتى الآن ليس واضحا تماما في هذا الصدد.

لكن مع كل ذلك أنا مع هذا الحراك الثوري مهما كانت النتائج، لأن هذا الحراك هو في حد ذاته دليل على حيوية الشعب ودليل على تشبثه بالحرية وتشبثه ببناء مستقبل مختلف. وقد كتبت عن هذا منذ بداية الحراك في سوريا، وموجود ما كتبته في جريدة الحياة، والمقال الأول الذي ذكرته هو " في ضوء اللحظة السورية" لكن مع الأسف معظم الناس لا يقرؤون، وهذا مأخذ آخر على المعارضة، لا يجوز للمعارضة أن تحكم أو تقول ما تقوله إلا استنادا إلى القراءة. أول من رحب بالمعارضة اليوم في سوريا في شكلها الجديد وكتب عنها هو أنا الذي أتكلم معك الآن، ويمكن العودة إلى ما كتبته في جريدة الحياة ، بدءا من شهر آذار/ مارس حين انطلق الحراك السوري.

الناس، التي خرجت من بيوتها ومنازلها تنادي بالحرية، لم تنسق قبلا مع المعارضة. وهذه الاحتجاجات عفوية بالكامل، لذلك إذا كنا ضد مخططات المعارضة أو عدم وضوح مخططاتها فإن الجماهير الشعبية التي تسير في الشوارع بصدور عارية تتلقى الرصاص ليست مسؤولة عن مواقف هذه المعارضة.

أدونيس: أنا مع هذه التحركات الشعبية مئة بالمائة ولم أقل مرة إنني ضدها أو انتقدتها، أبدا بالعكس أيدتها بدءا من عملية تونس وما حدث في مصر، وكنت إلى جانب هذا الحراك الشعبي العفوي.

أود الآن أن أقف عند كلمة الجامع، فبعد الإقصاء التام لكافة أنواع التفكير وملاحقة كافة التيارات الفكرية وممارسة أهوال القتل والقمع والظلم على مر كل هذه السنين العجاف، لم يبق أمام المواطن السوري سوى اللجوء إلى مكان اعتقد أنه يحميه من البطش، وهو مكان العبادة الذي يتمتع بنوع من الحرمة، لكن حتى هذا لم يحمه. المحتجون السوريون قاموا بذلك دون التفكير والتخطيط المسبق لتأسيس مؤسسة دينية، وفي هذه اللحظة بالذات يأتي صوت أدونيس ليقول: أنا أرفض كل حركة تنطلق من الجامع، وهنا بالذات شعر هؤلاء الهاربون من البطش أن أدونيس يوجه إليهم سهما في قلوبهم، فماذا يقول أدونيس؟

الصورة د ب ا
الانشقاقات في صفوف الجيش وصلت أيضاً إلى الجنود المتمركزين في محيط العاصمة دمشق، كما يقول ناشطون

​​أعتقد أنهم يبالغون. أنا قلت إن المناخ الثقافي العام السائد في مجتمعاتنا العربية وبشكل خاص السوري هو مناخ ديني إجمالا. والمناخ العام في البلدان العربية، الاجتماعي والفكري، هو مناخ قروسطي. أي أن الانتماء في أي بلد عربي ليس قائما على المواطنة، إنما هو قائم على الولاء، إما الديني وإما القبلي وإما العشائري، وهذا ما ينطبق على سوريا تماما. وهو ما يؤخذ على النظام الذي بقي نصف قرن ولم يفعل شيئا من أجل تأسيس للمواطنة. إذا في هذا الإطار استخدام الجامع هو استخدام سياسي، إذا لا نستطيع أن نثور على القرون الوسطى بعقلية القرون الوسطى ذاتها، وبهذا المعنى قلت لا أستطيع أن أخرج من الجامع بشعارات سياسية، مع احترامي الكبير لجميع الأديان والمتدينين الأفراد.

الخروج من الجامع بشعارات سياسية، باسم الدين، هذا هو الذي أنا ضده، ولست ضد الخروج من الجامع في المطلق، لو خرجوا من الجامع دون شعارات سياسية، يستخدم فيها الدين، كنت معهم، فاستخدام الدين بهذه الطريقة، وانطلاقا من الجامع، هو بحد ذاته عنف أيضا، عنف سياسي ضد الآخرين، لأن هناك أشخاصا لا يؤمنون بالأديان، مثلي. أنا لا أؤمن بالدين إطلاقا، إذا لي الحق أن أقول إنني لا أخرج من الجامع، إذا لست ضد الجامع بحد ذاته، إنما ضد استخدامه سياسيا من أجل قضايا وطنية وقومية.

في "رسالة مفتوحة إلى بشار الأسد" تصف الأسد بالرئيس المنتخب، وهو ليس منتخبا في الحقيقة، والده أتى إلى السلطة بانقلاب عسكري وهو، أ ي بشار، ورث عرش السلطة عن أبيه دون إرادة الشعب، والكل يعلم أن أي تصويت أو انتخاب من قبل مجلس الشعب ليس له أي وزن وأن أي انتخابات عامة تجري تتم في ظروف لا أثر فيها لحرية الرأي، وأنى للمواطن أن ينتخب ولا يوجد سوى الحزب الواحد، فماذا يقصد أدونيس بعبارة "الرئيس المنتخب" التي شعر بها الثائرون على ظلم حزب البعث بأنها سهم آخر يوجه إليهم؟

الصورة ا ب
سلمية الاحتجاجات هي الضمانة لنجاح الثورة السورية وسحب البساط من تحت اقدام النظام

​​أدونيس: حسنا، هل هناك في كل العالم العربي مجلس نيابي منتخب انتخابا حرا؟ وسوريا قامت بها انتخابات وتشكل مجلس نيابي، المجلس النيابي منتخب، وهذا المجلس النيابي المنتخب انتخب هذا الرئيس، لكن ممكن أن يكون هناك انتخابات مزورة، يمكن أن نقول هذا منتخب، لكن الانتخاب مزور. لماذا الوقوف عند الألفاظ، بشار الأسد لم يأت بانقلاب عسكري مثل أبيه إنما انتخبوه ولو شكليا من قبل مجلس نيابي منتخب ولو شكليا من قبل الشعب. بهذا المعنى سميته رئيسا منتخبا لأنه ليس عسكريا، ولم يأت على رأس دبابة أو بانقلاب عسكري.

لكن كلمة منتخب بالذات لها وزن كبير، وكأن الشعب اختاره.

أدونيس: بشار منتخب من قبل مجلس نيابي لا نزال حتى الآن نعامله كأنه منتخب، أنا أظن أن الوقوف عند الألفاظ لا يعني الشيء الكثير، كله مماحكات. النقد هو على الأسس لا على الألفاظ ، في النهاية تصبح نوعا من المماحكة. هل أتى بشار الأسد على رأس دبابة؟ هل أتى بانقلاب عسكري؟ ممكن أن نسميه منتخبا ونتجادل في الموضوع. أليس شيئا مريعا أن نصبر على مجلس منتخب زورا خمسين سنة، وإذا تحدثنا عن شخص انتخبه هذا المنتخب زورا تحدث كارثة، هذه أشياء أنا أرى أنها تدخل في المماحكة أكثر مما تدخل في البحث عن الحقيقة.

طبعا البحث عن الحقيقة والوقوف عند الألفاظ أمران مختلفان لكن في هذه الحالة بالذات عندما يتحدث الإنسان عن شخص يمارس هذا القمع كرئيس منتخب تصبح المسألة أمرا آخر.

أدونيس: حسنا، لماذا اعترضوا على مخاطبته منتخب ولم يعترضوا على تسميته رئيس؟ هكذا تصبح الأمور كلها مماحكة. لا يجوز أن نسميه رئيسا ولا يجوز أن نسمي المجلس النيابي مجلسا نيابيا، أظن أن الدخول في التفاصيل هو نوع من الجدل لا يسمن ولا يغني من جوع ، كله نوع من المماحكة التي لا تؤدي إلى أي نتيجة. بناء على مثل هذه الاعتراضات يجب أن نرفض المجلس النيابي ونرفض الرئاسة ونرفض الوزراء ونرفض الدولة بكاملها، وتسميته كمنتخب أسهل من مخاطبته كرئيس، لماذا لم يعترضوا على تسميته كرئيس؟

أعتقد أنهم اعترضوا، لأنهم يقولون إن الشرعية سقطت عنه، وعندما يعامل شخص شعبه بهذه الطريقة تسقط عنه الشرعية.

لا تسقط عنه الشرعية حتى يسقط فعلا فليسقطوه.

 

أدونيس الذي قال:

"لا أعرف أن أبكي

لو أنني أعرف لكنت حولت عيني إلى ينبوعين من الدمع

جنوبي في درعا، وشمالي في بانياس وجبلة".

شكر أنك أتيت بهذه الجملة لأنهم لم يقرؤوها. هؤلاء الذين يعترضون، لو قرؤوها لما اعترضوا.

وفي قصيدة أخرى بعنوان " عزف منفرد على قيثار دمشقي" يقول أدونيس:

"ليس للياسمين الدمشقي ناب

ولا خوذة

اتركوه لأحلامه ولأشواقه وللعاشقين".

وفي مقطع آخر:

"أسوار

منذ خمسين عاما

أتقصى المتاريس، أقرأ أسوارها وأنفاقها

وأرى كيف يقذف بالناس فيها".

هذا الموقف المتحد مع أحاسيس السوريين الثائرين على الظلم وما يواجهونه من بطش قلت أمثاله في التاريخ، هل هناك تناقض بين الموقف الفكري الفلسفي للشاعر والموقف العاطفي الشعوري؟

الصورة دويتشه فيله
محتجون ضد قمع النظام السوري

​​

أدونيس: لا ، لا أظن ، لذلك أدعو الأخوة الذين يعترضون، وأنا أحترم اعتراضهم، أدعوهم فقط إلى إعادة القراءة وسيرون أن أول من وقف إلى جانب الحراك القائم الآن، ليس في سوريا وحدها إنما في البلدان العربية، سيرونني بين الأوائل، وأرجو أن يقرؤوا بموضوعية وأن ينسوا جميع الأشياء المسبقة وجميع الإشاعات. أدعوهم إلى أن يقرؤوا النصوص كما هي، لا أن يسمعوا هكذا قيل أو هكذا سمعنا، كما هو شائع مع الأسف في الأوساط الثقافية العربية. كثيرا ما يقال لي مثل هذه الاعتراضات فأسأل المعترض هل قرأت ذلك وأين قرأته؟ فيكون جوابه لا، والله سمعت. مع الأسف كل أحكامنا مبنية على سماع وعلى إشاعات وليست مبنية على القراءة الدقيقة للنصوص بحد ذاتها.

ما هي في نظر أدونيس الوسيلة المثلى للشاعر لمواكبة شعبه الثائر على الاستعباد ؟

أدونيس: أحد أمرين، إما أن يشارك عمليا وينزل إلى الشارع أو أن يقف بأفكاره وبآرائه وكتابته إلى جانبه. وبالنسبة للشاعر إجمالا لا يقوم بالجانب العملي إنما عليه أن يقوم بالجانب النظري.

أدونيس، أحد أسباب منحك جائزة غوته هو نقلك لمفهوم الحداثة الأوروبية إلى الثقافة العربية؛ خلال أعمالك ومشاريعك القادمة على أي وجه من وجوه الحداثة الأوروبية تريد التركيز، لاسيما في خضم التحولات التي تعيشها المنطقة في الوقت الحاضر؟

أدونيس: أول شيء هو نقد للحداثة الغربية في ضوء الممارسة الغربية النظرية والعملية، وفي ضوء السياسة الغربية أيضا التي أصبحت الحداثة فيها مجرد أداة للهيمنة. هذا أول شيء، أي نقد الحداثة كما أسس لها الغرب.

والشيء الثاني هو نقد الثقافة العربية، أي الذهاب أبعد فأبعد في نقد الرؤية العربية للذات وللآخر ولمفهوم القديم والحديث والنقطة الثالثة هي التوكيد على المستقبل وعلى الشراكة الإنسانية. الفرد العربي لكي يكون عربيا يجب أن يكون إنسانيا، يجب أن يكون ألمانيا وفرنسيا وأمريكيا. يعني الذات صارت محل لاحتضان الآخر. بقدر ما نحتضن الآخر نصبح أنفسنا. لا وجود للذات بدون الآخر. وفي هذا الإطار سيكون عملي النقدي فيما يتعلق بالحداثة.

 

أجرت الحوار منى صالح

مراجعة: أحمد حسو

حقوق النشر: دويتشه فيله 2011