الإسلام قالب جامد أم فكر نابض؟

يريد الكاتب والصحافي شتيفان فايدنر بكتابه الجديد "الانطلاق نحو العقلانية. نقاشات حول الإسلام والعالم الإسلامي" تعديل النظرة الغربية للإسلام المتأثرة بالصيغ النمطية والتبسيطات، وذلك من خلال الإطلال على ظواهر معينة مثل الشريعة الإسلامية عبر منظور غير معهود بالضرورة. ألبريشت ميتسغر يعرفنا بهذا الكتاب.

الكاتبة ، الكاتب: Albrecht Metzger



يعد شتيفان فايدنر من أذكى المعلقين على القضايا المتعلقة بالأوضاع النفسية الخاصة بالعالم الإسلامي. وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من مقالات وتقارير وتحليلات ومراجعات لكتب أعدها وكتبها فايدنر بين عامي 1999 و 2011، وينقسم الكتاب إلى خمسة فصول موضوعية. ويرى شتيفان فايدنر أن الربيع العربي الذي أفضى حتى الآن إلى إجبار أربعة حكام مستبدين على التنحّي أو أدى إلى طردهم أو قتلهم، معتبرًا هذا الربيع نقطة انعطاف في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي.

ويرى فايدنر أنَّ عصر الامبريالية وزمن أنظمة ما بعد الاستعمار التي حافظت على سلطتها بمساعدة الغرب قد ولّى الآن إلى غير رجعة، حيث بات المطلوب اليوم "رأب الصدع" على كلا الجانبين. وهذا الصدع يبرز على شكل انعدام الثقة بشكل متبادل ودائم، حيث لا يثق الغرب بالعالم الإسلامي وبخاصةٍ منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، لأنه يعتبر المسلمين بالأساس على استعداد لاستخدام العنف وغير قادرين على تطبيق الديمقراطية، بينما لا يثق العالم الإسلامي بالغرب لأن المسلمين يعتقدون أنَّ الولايات المتحدة والأوروبيين أيضًا يمسكون بزمام الأمور في مناطقهم (العالم الإسلامي) من وراء الكواليس ويحيكون لها المؤامرات.

رؤية تميز الاختلاف

غلاف الكتاب
دعوة من أجل نقد مدروس وموضوعي للإسلام: كتاب شتيفان فايدنر الجديد "الانطلاق نحو العقلانية"

​​يقدم الربيع العربي أخيرًا إمكانية تجاوز عدم الثقة هذا وفقًا لرأي شتيفان فايدنر. ولا بد في هذا السبيل من تجاوز الجهل والتجاهل على كلا الجانبين وهذا الكتاب يريد المساهمة في التقدم في هذا الاتجاه. استبقُ الحديث في القول إنَّ المحاولة قد نجحت؛ فعلى الرغم من أنَّ النصوص مستقلة عن بعضها البعض وتجاوزت نشأتها الفترة الزمنية المحددة، إلا أن مواضيعها تكمّل بعضها بعضًا على وجه الإجمال وتتيح للقارئ نظرة مفصلة إلى طبيعة العالم الإسلامي تميِّز الاختلاف - كما نراها بالمنظور الألماني.

ويتميّز الكتاب بموضوعين مركزيين شغلا فايدنر على مرّ السنين. الموضوع الأول هو السعي إلى تعديل رؤيتنا للإسلام المتأثرة بالصيغ النمطية والتبسيطات، وذلك من خلال الإطلال على ظواهر معينة مثل الشريعة الإسلامية عبر منظور غير معهود بالضرورة. ومن جهة أخرى يشغله السؤال عن مدى مشروعية وضرورة نقد الإسلام الذي كان موجودًا قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، والذي ازداد بشكلٍ هائلٍ بعد ذلك، أمْ أنَّ هذا النقد لم يؤدِ إلا إلى متابعة حشر المسلمين في الزاوية ما يدفعهم إلى الدفاع عن دينهم بلا هوادة. وقد خصّص أيضًا لموضوع نقد الإسلام فصلاً خاصًا.

الإسلام قالب جامد أم فكر نابض؟

إنَّ ما يهم فايدنر في البداية هو "تحديد الموقف"، كما جاء وصف الفصل الأول الذي يدور حول نص يبحث في مسألة كيفية وجوب رؤية الإسلام، فهل يجب اعتباره "قالبًا جامدًا" أم "فكرًا نابضًا" معينًا. القالب جامد قلما يستطاع المرء تغييره، في حين أن الفكر مرن ويستطيع المرء التدخّل فيه وتكييفه مع الاحتياجات. ويسود في الغرب الإصرار على رؤية الإسلام بوصفه قالبًا بحجة أنه استبدادي ومعاد للديمقراطية ولا ينسجم مع طبيعة دولتنا الغربية المتسمة بالتعددية بحسب الرأي السائد.

الصورة د ب ا
أنصار أطروحة صدام الحضارات الأكثر إثارة للجدل في القرن الحادي والعشرين: توفي الباحث السياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون في 24 كانون الأول/ديسمبر 2008 عن عمر يناهز 81 عامًا.

​​ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، مثلاَ الباحث السياسي الراحل صموئيل هنتنغتون الذي فقد وصَّف الإسلام، بغض النظر عن الزمان والمكان، بأنه دينٌ عدائيٌ بالأساس، لا يمكنه أنْ يتعايش في سلامٍ مع معتقدات دينية أخرى، لذلك سيتسم المستقبل في المناطق التي يلتقي فيها الإسلام بديانات أخرى بوجود "صدام للحضارات".

ويرى شتيفان فايدنر أنَّ هذه الرؤية لا تأخذ الشروط التاريخية بعين الاعتبار، فكل ديانة تتغيّر بمرور الزمن، والإسلام بدوره لم يبقَ في الألف وأربعمائة عام من تاريخه بلا تغيير. إذن، هل يتناسب الإسلام مع الديمقراطية الحديثة؟ يكتب فايدنر في هذا السياق أنه: "لا يمكن القول بأن الإسلام يتفق كليًا مع الديمقراطية الحديثة، كما لا يمكن استبعاد وجود توافقٍ معيَّنِ".

التكيف مع طبيعة الحياة على الطريقة الإسلامية

يقول فايدنر إنَّ الشكل الأصلي للمسيحية أيضًا لم يكن متوافقًا مع الديمقراطية الحديثة، بيد أنَّ إصلاحًا جذريًا كلّف الكثير من الدماء قد غيَّر هذا الأمر ويرى أنَّ هذا ممكنٌ في الإسلام أيضًا. وبغض النظر عن ذلك، لم تجعل الأفكار الناس ديمقراطيين، إنما الوقائع الملموسة هي ما فعل ذلك. ويكتب فايدنر بهذا الصدد: "إذا كان العيش في ظل الديمقراطية أكثر راحةً، سوف يلائم الجيل الثالث على أقصى حد هذه الديمقراطية مع واقع عيشه ووجوده كمسلم."

الصورة خاص
درس شتيفان فايدنر علم اللغة الألمانية وآدابها والفلسفة والدراسات الإسلامية وغيرها في جامعات بيركلي ودمشق. ويعمل كاتبًا ومترجمًا وناقدًا أدبيًا ويشغل منصب رئيس تحرير مجلة "فكر وفن

​​ويرى فايدنر أنَّ خوف الغرب من الشريعة الإسلامية لا موجب له إلى حد ما، ذلك أنَّ الشريعة تعني للمسلمين في المقام الأول العدالة وليس قطع الأيدي. ضمن نظام عادل، وأيضًا في ظل نظامٍ ديمقراطيٍ بالذات، لا ضرورة لتطبيق الجوانب القديمة من الشريعة. وأما أولئك الذين ينظرون إلى الإسلام باعتباره "فكرًا"، فيرون الأمر بشكل مشابه ويعتبرون الإسلام مرنًا لا كلامًا منحوتًا في الصخر، وبالتالي يكون اتهام الإسلام بأنه عنيف بالأساس قد عفا عليه الزمن. بالرغم من اتضاح تعاطف فايدنر مع أسلوب هذه الرؤية، إلا أنه يرى المشاكل أيضًا. ذلك لأن القائلين بـ"إسلام الأفكار" يميلون للفقه الدفاعي، فهم يدافعون عن الإسلام ضد أي انتقاد، حتى ولو بدا أن النقد ضروري. كما أن فايدنر ذاته لا يهاب الخوض في الجوانب الإشكالية في التقاليد الإسلامية، إذ يشير إلى مواضع في مجموعة الأحاديث النبوية للنووي التي تعود إلى القرن الثالث عشر والتي تحظى في العالم الإسلامي اليوم بشعبية كبيرة، حيث يجري تحريم قتل المسلم في أحد الأحاديث إلا إذا كان متزوجًا وزنى أو إذا كان قاتلاً أو مرتدًا.

مقاربة النصوص الدينية بشكلٍ عصري

وبذلك نكون قد بلغنا الجوانب الإشكالية في الشريعة. ربما كانت هذه العقوبات في القرن الثالث عشر عادية (حتى في أوروبا) إلا أنها وحشية بالمفهوم المعاصر. إنَّ حيثية صدور هذه التعاليم عن الرسول مباشرة تدفع الفقهاء العصريين إلى الإحجام عن دحضها، لا سيما وأنَّ الأصوليين الإسلاميين سيتهمونهم بأنهم مرتدُّون. لكنَّ فايدنر يرى أنَّ الجدل النقدي التاريخي للنصوص الدينية ضروري لكي تنجح عملية تحديث الإسلام اللازمة. أي أن المؤلف لا يعارض نقد الإسلام من حيث المبدء، إلا أن مأخذه على الذين نصَّبوا أنفسهم نقادًا للإسلام وقد زادت أعدادهم بخاصةٍ منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، أنهم يغالون ويندفعون بلا تروٍّ.

فتراهم على حد قوله مثلهم مثل ممثلي مقولة الإسلام يشبه القالب الجامد ينكرون على المسلمين أية إمكانية لتحديث دينهم. ويرى نقّاد الإسلام أنه ساكنٌ لا يمكن إصلاحه وبالتالي معادٍ للديمقراطية. تؤدي رؤية كهذه فيما يتعلق بالعيش المشترك في أوروبا إلى عواقب وخيمة، لأنها تعني في نهاية المطاف أنَّ المسلمين لا يمكنهم الاندماج في هذا البلاد إلا إذا تخلوا عن معتقدهم الديني.

إلا أنَّ فايدنر متفائل على الرغم من المواقف المتصلبة، حيث أظهر الربيع العربي أنَّ المسلمين المتدينين يستطيعون أيضًا الخروج إلى الشوارع من أجل قيم مثل الديمقراطية وحرية التعبير يُزعمُ إنها غربية. وربما يكون الطريق إلى ترسيخ الديمقراطية في الشرق الأوسط وعرًا، لكن من الأفضل للغرب دعم المسلمين على هذا الطريق، وإلا سيكون هناك تهديد بتعميق الاغتراب بين العالمين الغربي والإسلامي.

 

ألبريشت ميتسغر
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012

شتيفان فايدنر: الانطلاق نحو العقلانية. نقاشات حول الإسلام والعالم الإسلامي ما بين الحادي عشر من أيلول/سبتمبر والثورات العربية، دار النشر "J.H.W. Dietz"، بون 2011.