مراهقة الليبرالية المصرية...إخفاق للعلمانية وإفشال للديمقراطية

يرى المعلق السياسي خالد الحروب في تحليله التالي لموقع قنطرة أن نزعة الانتقام والغرائزية وقصر النظر التي استبدت بالقوى الليبرالية باستعجالها إنهاء حكم «الإخوان» عبر استعانتها بالجيش تمخضت عن قطع سيرورة التحول الديمقراطي المصري وستؤدي إلى إعادة شحن طاقة الإسلاميين.

الكاتبة ، الكاتب: Khaled Hroub

قبل أقل من عام فقط كان ثمة شعاران يتناوبان ميدان التحرير الذي كانت تملأه القوى المدنية والليبرالية في مصر: «يسقط..يسقط..حكم العسكر» و«يسقط..يسقط..حكم المرشد». في تلك الأثناء، قبل وبعيد انفضاض المجلس العسكري وعودة الجيش للثكنات، كانت هناك اتهامات علنية بوجود تحالف وصفقات بين «الاخوان» والجيش نظمت، على نحو ما، نوعاً من التقاسم الوظيفي في الحكم. الشعاران المدنيان حول إبعاد العسكر وإبعاد «المرشد» عن الحكم والسياسة مثلاّ بوصلة دقيقة وجامعة لما كان من المُؤمل أن تتجه إليه الأمور، وهو السير في السياسة بعيداً عن الجيش وبعيداً عن إقحام الدين فيها. تواصلت بعد ذلك المعارضة القوية لحكم «الإخوان» بعد فوز محمد مرسي في الرئاسة، ثم تسارع زخمها مع بروز حركة «تمرد» وصولاً إلى إسقاط الرئيس وعزله بعد التحالف مع الجيش نفسه. «إقحام العسكر في السياسة» و«إقحام الدين في السياسة» آفتان فتاكتان من النوع الذي يقضي على أي مشروع للدمقرطة ويكلس السياسة ويغذيها بتنويعات فاشية. بيد أنه ليس من اليسير تحرير السياسة والحكم من الاثنتين في بلدان لا تزال تعيش حالة من السيولة والتفكك أنتجتها عقود من الاستبداد والحكم الطائفي والفردي والقبلي، ولم تتأسس فيها أية بنيات مواطنية ودستورية وطبقات وسطى تشتغل كروافع لأي مشروع دمقرطة.  بلدان حقبة ما بعد الاستقلال العربية دخلت في حالة من التكلس والجمود السياسي والثقافي والديني الذي أشبه ما يكون بـ «المستنقع»، وعندما دهمت بعضها موجات الربيع العربي كشفت عمق العفن المتراكم وهول الواقع الذي نحياه، وصعوبة السير إلى المستقبل. إهدار فرصة تاريخية  مع ذلك لاحت فرصة تاريخية للتخلص من الحالة المُستنقعية والدخول في سيرورة مدنية وتصارعية سلمية تنتقل بالمجتمعات والبلدان الى الأمام، وعن طريق الدمقرطة وليس الدم والاقصاء. لكن القوى التي وجدت نفسها في قلب الصراع، سواء أكانت إسلامية، أم ليبرالية، أم قومية، ومع اختلافها في كل شيء، كانت تلتقي كلها على ثقافة إقصائية تحتقر التعددية عملياً وموضوعياً، وتضيق ذرعاً بالتعايش مع الخصم السياسي. وفهمها للديموقراطية هش وبدائي إلى أبعد حد.

"استعجال القوى المدنية والديمقراطية واستنجادها بالجيش أجهض السيرورة الديمقراطية، وأعاد بضربة واحدة فقط إلى قلب السياسة ألد أعدائها: الجيش والتوظيف الديني لها"، كما يرى خالد الحروب.

لم تكن هذه مفاجأة كبيرة، ذلك أن هذه القوى هي الأخرى من مخلفات ونواتج حالة الاستنقاع الطويل التي أورثت فكراً معوقاً وسياسة معوقة في الحكم والمعارضة على حد سواء. والفرصة التاريخية التي لاحت في تونس ومصر وليبيا واليمن، يتم هدرها الآن بشكل مريع وتتحالف القوى المتصارعة في الإجهاز عليها، تتحكم فيها جميعاً مراهقة سياسية وغرائزية بدائية أكثر من أي شيء آخر. في مصر تم تفويت الفرصة التاريخية لجهة المضي بصبر وتحقيق إنجاز تدريجي وتراكمي في مسار إبعاد الدين عن السياسة، وإبقاء الجيش بعيداً عنها ايضاً. فخلال عام واحد فقط خسر الإسلام السياسي في مصر وفي المنطقة، وعبر السياسة ومن خلال الفشل في الحكم، ما كان قد راكمه من رأسمال سياسي وشعبية انتخابية. كل الشعارات الإسلاموية وضعت على محك الاختبار والقدرة على التنفيذ أمام الشعوب والناخبين الذين كانت تجذبهم الوعود الخلاصية في برامج الإسلاميين. لم يكن بإمكان أية قوة سياسية منافسة، أو قوة أمنية قامعة، أو عسكرية مسيطرة، تحقيق الخسارات المتلاحقة والمدهشة التي تجمعت في رصيد الإسلاميين خلال سنة واحدة من وجودهم في الحكم. أهم ما كانت تنجلي عنه تلك السيرورة هو انكشاف الشعاراتية الإسلاموية أمام الناس والناخبين، والتحييد المتسارع لفكرة خلط الدين مع السياسة في وجدانهم، ودفعهم للحكم على أي حزب، بما فيها الاحزاب الإسلامية، من منطلق الأداء والكفاءة وليس من منطلق العاطفة الدينية. لم يكن بالإمكان الوصول إلى ملايين الناس وإقناعهم بالفكر والتنظير بضرر استخدام الدين في السياسة، حيث يتشوه الدين وتتعوق السياسة. لكن وجود «الإخوان» في سدة الحكم، وتسيّس السلفيين، حققا من الإنجازات على مستوى كشف الدمار الذي يحمله خلط الدين بالسياسة ما لم تحققه مئات الكتب التي أصدرها كبار المنظرين والمفكرين في المنطقة منذ عبدالرحمن الكواكبي وحتى صادق جلال العظم. هذا الإنجاز الديمقراطي الليبرالي الكبير الذي حققه وجود «الإخوان» في الحكم دمره الليبراليون أنفسهم! زخم المظلومية صعود الإسلاميين الوئيد والطويل خلال ثمانية عقود ماضية تأسس على عدة أسباب موضوعية. من أهم تلك الأسباب البناء على فشل الأفكار السياسية والآيديولوجيات الأخرى التي وصلت إلى الحكم، أي الوعد بأن ليس هناك من طريق أو حل إلا عبر تسلم الحركات الإسلامية الحكم، وهو ما كان يترجم شعاراتياً إلى «الإسلام هو الحل». ثم هناك زخم «المظلومية التاريخية» وهالة التضحية والبطولة التي تخرجت من رحمها أجيال عديدة من الإسلاميين الجاهزين للموت في أي مكان من أجل الفكرة التي «تحالفت ضدها كل قوى الكفر العالمي».  زرعت البذور الأولى لتلك المظلومية في التجربة المريرة التي خاضها «الإخوان» ضد حكم عبد الناصر وما تعرضوا له من اضطهاد وتعذيب في سجونه. ثم تكررت صور من تلك المظلومية في أكثر من بلد عربي على وقع الاستبداد والقمع الذي كان يطاول الجميع. وكان هناك الشعار النضالي والجهادي المعادي لإسرائيل والغرب والذي يطرح نفسه عنواناً للممانعة والوقوف في وجه تعديات الغرب وعنجهيته إزاء المنطقة. في سنة أولى حكم، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا، توافرت الفرصة الذهبية لشعوب هذه البلدان لإنهاء مفاعيل العناصر والأسباب الكبرى التي عززت قوة وشعبية الإسلاميين في المنطقة. صار بالإمكان اختبار الشعار الفعال والذي يستثمر مشاعر الناس وعواطفهم الدينية «الإسلام هو الحل». وصار بالإمكان تحييد مسألة «المظلومية التاريخية» لأن الإسلاميين أصبحوا في قلب إدارة الحكم ولم يعد يُلحق بهم أي ظلم، بل على العكس صاروا في مكان «الظلمة» في أكثر من حادثة وسياسة.

"سيقول الإسلاميون بأنهم لم يُمنحوا الفرصة الكاملة كي يطبقوا شعارهم «الإسلام هو الحل»، مبقين على مفعوله في أوساط الناخبين. وسيعيدون تشغيل آلية «المظلومية التاريخية» على أساس جديد هذه المرة وهو أن كل القوى الأخرى تحالفت مع الجيش لإزاحتهم وسرقة حكمهم الشرعي والمنتخب"، كما يرى خالد الحروب.

وصار بالإمكان تحييد مسألة استثمار الشعارات المعادية لإسرائيل وللغرب والتلاعب بعواطف الناس أيضا في هذا الموضوع، لأن إسلاميي الحكم في مصر وتونس وليبيا معاً أدركوا تعقيدات المعادلات الإقليمية والدولية وتواضعت همتهم «النضالية» ضد الغرب بخاصة مع حاجتهم إليه هنا وهناك، وبالتالي أُبطل المفعول التعبوي للخطاب النضالوي ضد الغرب. إجهاض السيرورة  ما كانت تحتاجه مصر والعالم العربي هو أن يستمر الانكشاف الإسلاموي على مرأى الناس والناخبين الذين يقررون هم، لا الجيش، أن حكم «الإخوان» يجب ان يُستبدل، وأن يتم ذلك ديمقراطياً وانتخابياً. تلك هي السيرورة، التي بطؤها قد يستفز الأعصاب، ومخاطرها لا يُستهان بها، لكنها الوحيدة التي كانت تؤسس لمستقبل ديمقراطي حقيقي لمصر. بيد أن استعجال القوى المدنية والديمقراطية واستنجادها بالجيش أجهض تلك السيرورة، وأعاد بضربة واحدة فقط إلى قلب السياسة ألد أعدائها: الجيش والتوظيف الديني لها. فالجيش المصري، مثل أي جيش آخر، لا يقوم على بنية ديمقراطية، بل على تراتبية صارمة تقوم على قاعدة «نفذ ثم ناقش». وليس من المُستبعد أن ينفد قريباً صبر الجيش على فوضى الشارع وصبيانية ومراهقة السياسيين، بعد انفلات الميادين في مصر، ويعلن آجلا أم عاجلا حالة الطوارىء ويحكم مباشرة مُقاداً بمنطق تحقيق الأمن والاستقرار. أما «الاخوان المسلمون»، ومعهم الأحزاب السلفية، والذين كانت سياستهم وشعبيتهم في انحدار متواصل، فقد جاءت الرياح في صالحهم على المدى الطويل، وإن كانت خسارتهم كبيرة على المدى القصير. لقد خدمتهم نزعة الانتقام والغرائزية وقصر النظر الذي استبد بالقوى الليبرالية والديمقراطية واستعجالها إنهاء حكم «الإخوان»، حيث أعادت خطوة إسقاطهم عبر الاستعانة بالجيش الحياة لعناصر الشعبية والقوة التي اعتاش عليها «الإخوان» عقوداً من الزمن.  سيقول الإسلاميون بأنهم لم يُمنحوا الفرصة الكاملة كي يطبقوا شعارهم «الإسلام هو الحل»، مبقين على مفعوله في أوساط الناخبين. وسيعيدون تشغيل آلية «المظلومية التاريخية» على أساس جديد هذه المرة وهو أن كل القوى الأخرى تحالفت مع الجيش لإزاحتهم وسرقة حكمهم الشرعي والمنتخب. وسيعيدون بث الحياة في خطاب عداء الغرب لهم بدليل مساندته للجيش والتغير في مصر، وبذلك نعود إلى ما قبل المربع الأول. هذا كله من دون أن نتحدث عن سيناريو تسعير الجنون الإسلاموي القاعدي الذي يفرك يديه فرحاً الآن بانفتاح «جبهة الجهاد في مصر». والفضل الكبير في كل هذا، أي في إعادة شحن طاقة التيار الإسلامي، إخوانياً أم قاعدياً في المنطقة، وفي تحقيق هذه العودة الارتدادية، يعود إلى قصر نظر القوى الليبرالية واستعجالها غير المبرر وانقياد قياداتها للشارع، بدل أن تقوده.  خالد الحروبتحرير: علي المخلافيحقوق النشر: قنطرة 2013