"عملية الحرب" ضد إيران بعد "عملية السلام" حول فلسطين

ليس مهما المقصود بـ"العملية" والمقصود بـ"السلام" في "عملية السلام"، المهم هو النموذج الذي نجح وصار متوفراً للنسخ والاستعارة. النموذج بسيط لكنه جبروتي ومخيف: قم بتخليق "عملية" إقليمية برعاية القوة الأمريكية الأكبرٍ ثم أضف إليها كلمة "سلام" أو "حرب"، أي الجزرة التي تُبقي الطرف المُستهدف واليائس أسير الامل بالحصول عليها. احرص على أن تبقى الجزرة متراقصة امام رأس الحصان، الذي تقوده من العربة التي يجرها الحصان وقم بتوجيهه كما تشاء عبر تحريك الجزرة في الاتجاه الذي تشاء.

الكاتب، الكاتبة : Khaled Hroub

في "عملية السلام"، التي امتدت ربع قرن أنهك الحصان الفلسطينيُّ وهو يطارد جزرة الدولة الفلسطينية العتيدة تتراقص أمام عينيه، كان السائس الإسرائيليُّ وعلى مر سنوات عجاف طوال يوجه الحصان من الخلف نحو كافة المسارات التي أرادها. الآن وبعد كل ذلك الوقت والإنهاك لم يعد هناك امل في "السلام"، لكن "العملية" العبقريَّة تواصل إدارتها للمشهد و السياسة بمهارة مُدهشة.

مارتن إنديك، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى والسفير الأميركي لدى إسرائيل في عهد الرئيس كلنتون، قال ذات مرة "... إننا نستخدم عملية السلام كآليَّة لتغيير وجه المنطقة"، وهو ما حدث وتحقق فعلا. فقد انتجت "العملية" لإسرائيل سياقًا دبلوماسيًّا وتبريريًّا مكَّنها من مواصلة تكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية، بالتوازي مع تقديم صورة "الدولة المحبة للسلام" على صعيد إقليميٍّ ودوليٍّ.

كان الانطباع الخادع الذي توفره "عملية السلام" يقول وعلى لسان الإسرائيليين إن السلام مع الفلسطينيين قادم بالتأكيد وأن التوصل إلى تسوية نهائيَّة هو مسألة وقت ليس إلا.

لكن تحت غطاء "العملية" المُخاتلة تراكمت الإنجازات الإسرائيليَّة على الأرض: تقطيع اوصال أراضي الدولة الفلسطينيَّة المستقبليَّة المُفترضة، عبر نشاط استيطانيٍّ محموم؛ تحويل السلطة الفلسطينيَّة في الضفة الغربية المُفترض ان كانت مجرد إدارة انتقاليَّة لخمس سنوات إلى جهاز أمنيٍّ "بحكم الأمر الواقع" يعمل على حماية المستوطنين واعتقال من يجرؤ على المقاومة من الفلسطينيين؛ تعميق الانقسام الفلسطيني في السياسة والجغرافيا بين فتح وحماس، والضفة الغربية وقطاع غزة، والتلاعب بكلا الطرفين وضربهما ببعضهما البعض، عبر توفير الأوكسجين لكل منهما للبقاء على قيد التناحر، لكن مع تصفير القدرة على إلحاق ضرر حقيقي بإسرائيل.

"عملية حرب" لا "عملية سلام"

الآن تنتقل المنطقة إلى مرحلة أخرى و"عملية" إقليمية جديدة وهذه المرة ستكون "عملية حرب" لا "عملية سلام". بوادر تشكل هذه العملية تتم على صوت قرع طبول الحرب والتهديدات الامريكية، والتي بدأت مع إعلان إدارة ترامب إنهاء الإعفاءات الممنوحة لبعض الدول من الالتزام بحظر شراء النفط الإيرانيِّ، ثم تصعيد خطاب الحرب وإرسال حاملة الطائرات إبراهام لنكولن إلى الشرق الاوسط.

التهديدات الامريكية ومعها الاسرائيلية لإيران ليست جديدة، بيد أن لها هذه المرة دور مختلف إذ تأتي في سياق تدشين أميركا وإسرائيل "عملية حرب مع إيران" على مستوى إقليميٍّ تتحقق فيها لإسرائيل أقصى المنافع حتى لو تكبدت فيها سائر دول المنطقة أقسى الخسائر.

"عملية الحرب" الجديدة تحلُّ محلَّ "عملية السلام" القديمة، التي منحت إسرائيل ربع قرن ثمين ليس فقط لترسيخ احتلالها لفلسطين، بل وأيضا لتحسين علاقاتها الدبلوماسيَّة مع كثير من الدول وإنجاز اختراقات معتبرة داخل العالم العربيِّ تحت ستار أن السلام سيتمخض في نهاية المطاف عن "العملية" مع الفلسطينيين.

الآن وقد ظهر خواء ذلك الزعم وظل السلام سراباً وفقدت "عملية السلام" طاقتها، فإن "عملية الحرب" الجديدة ضد إيران تتولى استكمال مهمة تقوية إسرائيل في المنطقة وفتح مساحات ودول جديدة امامها، وأهمها وأولها بلدان الخليج العربيِّ وقصورها واقتصاداتها.

خطاب إسرائيل ضد إيران لم ينفك عن النفخ في بوق الحرب طيلة عقود، وظلَّ يرمي إلى إبقاء العالم في حالة فزع وتوثب، مجتذبًا الدعم على صعيد خارجيٍّ ومستنفرًا التلاحم والتماسك على صعيد داخليٍّ. وفي قلب ذلك الخطاب ترعرعت "الأكذوبة" القائلة إن إيران تريد مسح إسرائيل من الخريطة.

المعادلة الصفرية تنذر بتدمير المنطقة: يحذر المراقبون من تداعيات سعي بعض الدول العربية إلى التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة بهدف تقليم قوة إيران الإقليمية ويعتبرون أن حل الإشكال الإيراني- العربي يتطلب الكثير من الدبلوماسية، وإعادة النظر بالأولويات الإقليمية.
المعادلة الصفرية تنذر بتدمير المنطقة: يحذر المراقبون من تداعيات سعي بعض الدول العربية إلى التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة بهدف تقليم قوة إيران الإقليمية ويعتبرون أن حل الإشكال الإيراني- العربي يتطلب الكثير من الدبلوماسية، وإعادة النظر بالأولويات الإقليمية.

الخطاب الإيراني الدعائي

صحيح أن التصريحات الجنونيَّة الإيرانيَّة، وتحديدًا عنتريات الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، تضمنت تلك التهديدات التشبيحية والرنانة، لكن هدفها كان معروفا للجميع وهو رفع سقف أيِّ مفاوضات مقبلة مع الولايات المتحدة والغرب بشأن العقوبات والملف النوويِّ.

آنذاك وللآن ألحقت "التهديدات" الإيرانيَّة غير الجدَّية أضرارًا جديَّة وحقيقية بالفلسطينيين، محوِّلةً الأنظار عن توطيد إسرائيل لدعائم احتلالها العسكريِّ ونشاطها الاستيطانيِّ في الضفة الغربية بذريعة تقوية جبهتها الشرقية لمواجهة أي هجوم مستقبلي تشارك فيه إيران! وفي ذات الوقت وببركة تلك "التهديدات" ضاعفت إسرائيل من حصولها على  الدعم العسكريِّ والدبلوماسيِّ لمواجهة تهديد ووعيد طهران المفيد وظيفيا ومصلحيا.

وآخر ما راكمته إسرائيل من إنجازات في هذا الصدد، هو الاعتراف الامريكي الرسمي ب "سيادة" إسرائيل على الجولان وضمه لها، ضاربة بعرض الحائط القانون الدولي وكل قرارات الامم المتحدة، التي تعتبر الجولان اراض سورية محتلة منذ عام 1967.

"عملية الحرب" ضد مع إيران تعود عليها بمنافع إقليمية

بعد تأمين كل تلك المكاسب، تصبُّ الجهود الإسرائيلية والأميركية زخمها الآن في صوغ ما يمكن أن يُطلق عليه "عملية الحرب" ضد مع إيران المتأسسة على الفكرة التي يروج لها من وجود مصالح مشتركة مفترضة مع دول الخليج العربي لأجل "مواجهة العدو الايراني المشترك".

"عملية الحرب" هذه موكول إليها تسعير الخوف من إيران وإبقائه في اعلى المستويات في طول وعرض منطقة الخليج، واستغلال هذا التسعير للاستثمار في بنك من الأهداف داخل المنطقة، يأتي في مقدمتها تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع دول الخليج، وبالتوازي معه يستمر تشغيل وتوظيف الصراعات بالوكالة سيستمر لضمان بقاء وتائر التوتر عالية وتخويفية.

أما الحرب الشاملة الموعودة ذاتها ضد إيران فلن تحصل على الأغلب، لأنها لن تكون في صالح الاطراف المتصايحة الآن (إسرائيل، أمريكا، وإيران) مع أن "العملية" ذاتها ستنمو وتزدهر لسنوات مقبلة.

ثمة مفارقة كبيرة هنا تستلزم الإشارة، وهي أن "عملية الحرب" ضد إيران تعود عليها بمنافع إقليمية مشابهة لتلك العائدة على إسرائيل وامريكا. فما يتسم به خطاب طهران الدعائيِّ من نبرة قتالية وحربية ضد إسرائيل هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية إيران في توطيد نفوذها الإقليمي، وترسيخ صورتها ك "كقائد لمحور المقاومة" في المنطقة. فإيران تبرر كافة تدخلاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين على أساس أن ذلك الدعم والتدخل هو جزء من تلك "المقاومة" المُدعاة.

لكن في الواقع، وخلافا للجعجعة بـ "مسح إسرائيل"، يتلخص موقف إيران الأساسي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في القبول بما قد يقبل به الفلسطينيون في نهاية المطاف. فإيران تقبل عمليا وبعيدا عن الخطاب الايديولوجي بحل الدولتين، كما تقبله الدول العربية مجتمعة وفق "مبادرة السلام العربية" لعام 2002 التي عرضت الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها مقابل دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967.

وقد تأكد هذه الموقف إبان قمة منظمة التعاون الإسلامي المنعقدة في اسطنبول عام 2017، بدعوة تركية للردِّ على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، حيث صادقت إيران ممثلة برئيسها حسن روحاني ووزير خارجيتها محمد جواد ظريف على البيان الذي صدر عن القمة ودعا إلى تسوية تقوم على حل الدولتين.

الكاتب والمحلل السياسي خالد الحروب يعد من أهم الأكاديميين العرب المتابعين لتطورات السياسة الدولية وتداعياتها على المنطقة العربية. وهو يعمل حاليا أستاذا لسياسات الشرق الأوسط المعاصر والدراسات الإعلامية العربية في جامعة نورث وسترن في قطر
الكاتب والمحلل السياسي خالد الحروب يعد من أهم الأكاديميين العرب المتابعين لتطورات السياسة الدولية وتداعياتها على المنطقة العربية. وهو يعمل حاليا أستاذا لسياسات الشرق الأوسط المعاصر والدراسات الإعلامية العربية في جامعة نورث وسترن في قطر

تشابه الاستراتيجيات الإسرائيلية والإيرانية

وهكذا يمكن ملاحظة تشابه الاستراتيجية التي يتبعها الإسرائيليون والإيرانيون واحياناً انطباقها، رغم انطلاقها من نقطتين متعارضتين تماماً: خطاب دعائي يقرع طبول الحرب مقرونًا بتوظيف الصراعات بالوكالة لتوسيع نطاق السطوة الإقليمية ولتحقيق أهداف استراتيجية. في الأثناء، لا نية جدية لدى كلا الطرفين في محاربة بعضهما البعض بشكل مباشر، بل وعلى الاغلب لا يود أي منهما إنهاء "تهديد" الطرف الآخر.

فلو رُفع "التهديد الإيراني" تماما من المشهد الإسرائيلي، ستخسر تل أبيب أفضل ما في جعبتها من ادوات ذرائعية تستغلها في سياساتها على الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية. وعلى نفس المنوال، لو أُزيل "التهديد الإسرائيلي" وادعاء "المقاومة" من الخطاب الإيراني، ستخسر طهران القطعة الأهم في لعبة الشطرنج الاقليمية الخطرة التي تلعبها.

إن الهدف الإسرائيلي الأميركي الأهم من وراء تدشين "عملية الحرب" ضد إيران هو ضم إسرائيل إلى صف دول الخليج العربي، ظاهريًّا، لأجل مواجهة "عدو مشترك". لكن جوهر هذه "العملية" هو استغلال مشاعر الخوف والرفض السعودي الإماراتي تجاه إيران ونفوذها الإقليمي المتصاعد، وبالتالي ترسيخ أحد الافتراضات الضمنية لهذه "العملية" وهو أن ما من أحد قادر على الوقوف في وجه إيران سوى إسرائيل وإسرائيل فقط، لهذا ينبغي أن يذعن عرب الخليج لقيادتها، ويدينوا لها ايضا بالشكر على حمايتهم.

أما ما تحصل عليه إسرائيل في هذه المقايضة فهو التطبيع التدريجي والعلني لعلاقاتها عبر منطقة الخليج برمتها. لكن من جهة واقعيَّة وعملية يدرك كثيرون ان اسرائيل لن تخوض أبدا حربا بالنيابة عن دول الخليج وتجازف بمصادرها لخدمة مصالح تلك الدول، وان خوض اسرائيل لحرب جزئية أو كلية هنا أو هناك هو أمر محسوب بدقة وتبعا لحسابات ومصالح اسرائيلية أولا وأخيرا، وليس فعل خير تقدمه للآخرين.

يتسارع ذلك كله مع تجمد وقصور مدهشين في سياسات الدول الخليجية وايران تجاه بعضها البعض، وهي سياسات تتسم متسمة بقصر النظر المريع، والتي تؤول نتائجها فعليًّا باتجاه تدمير مصالحهما المشتركة.

فلو بذلت تلك الدول قسطا يسيرا من جهدها المهدور في التنافس والإحتراب الإقليمي في التفكير الجدي والحوار فيما بينها لوضع ترتيبات أمنية تصون مصالحها المشتركة، لوفرت على أنفسها مغبة التلاعب بها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل. إذ أن الموارد الضخمة التي تنفق على بناء ترسانات عسكرية لا تخدم إلا شركات الأسلحة الأميركية والغربية.

فالأرقام تشير إلى أن دول الخليج خصصت أكثر من 100 مليار دولار لشراء السلاح خلال هذا العام فقط، 2019، هذا من دون التذكير بأزيد من هذا الرقم في العام الماضي، فضلا عن الإنفاق الفلكي الذي خصصته السعودية لمجالات التسلح عام 2017 ووصلت إلى 450 بليون دولار.

لهذا، ليس ثمة مبالغة في القول بأن الإبقاء على المنطقة تغلي فوق نار من الصراعات والتوترات والحروب التي يرافقها إنفاق خيالي لشراء السلاح الذي يصب في المصارف الأميركية هو مصلحة أميركية حيوية. وأن أنجع السبل لحماية هذه الاستثمارات الضخمة في السنوات المقبلة هو الاستثمار في "عملية" تخويفية تبقي الشرق الأوسط مسكونا بشبح الحرب.

 

خالد الحروب

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

الكاتب والمحلل السياسي خالد الحروب يعد من أهم الأكاديميين العرب المتابعين لتطورات السياسة الدولية وتداعياتها على المنطقة العربية. وهو يعمل حاليا أستاذا لسياسات الشرق الأوسط المعاصر والدراسات الإعلامية العربية في جامعة نورث وسترن في قطر.  وعمل الحروب محاضراً في جامعة كامبريدج سابقاً، وكان مذيعا في قناة الجزيرة في برنامج "خير جليس في الزمان كتاب" في الأعوام (2000-2007) وله عدة مؤلفات يبلغ عددها 11 كتابا منشوراً باللغتين الإنجليزية والعربية.