أطفال "حجر رشيد"... عقدة الذنب المُتحَفية

احتفالاً بمرور مئتي عام على حل شيفرة "حجر رشيد"، افتتح المتحف البريطاني، منتصف الشهر الماضي، معرضاً بعنوان: "الهيروغليفية تفض ألغاز مصر القديمة"، وسيستمر حتى فبراير/شباط 2023. الناقد شادي بطرس يعتبر أن الجهد المبذول في محاولة توسيع عدسة المركزية الأوروبية، يشي بنظرة نقدية واستعداد للمراجعة، إلا أنه يظل أقرب للديكور في معظم الأحيان.

الكاتبة ، الكاتب: شادي بطرس

المناسبة الكبرى المتنازع عليها بين لندن وباريس، تفتح الباب لمنافسة احتفائية بين متحف اللوفر والمتحف البريطاني. فالأول أقام بالفعل معرضه الخاص، بتركيز على شخصية شامبليون ودوره التاريخي في الاكتشاف الهائل.

أما الثاني والذي يتباهى بحظوة اقتناء "حجر رشيد"، ويعده شارته التذكارية الأبرز للترويج السياحي، فإن معرضه تنتابه هواجس أخرى أبعد من مجرد تهنئة الذات. فالحجر الشهير، يظل غنيمة حرب، بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو غنيمة عملية سلب مزدوجة، سلبه الفرنسيون من خرائب قلعة مملوكية في مدينة رشيد أثناء حملة نابليون على مصر، ثم اغتنمه الأسطول البريطاني الرابض على مقربة من شواطئ الإسكندرية، إثر معركة بحرية حاسمة ومفاوضات طويلة هدد فيها الفرنسيون بحرق الحجر أو تحطيمه. 

وتهيمن على الدراسات المُتحَفية المعاصرة عقدة الذنب الكولونيالية، بقدر تلبس الأرق الأخلاقي ذاته للأنثروبولوجيا، فكلاهما علمان استعماريان في الأصل، بغرض إنتاج معرفة عن الشعوب "الأخرى". الأول بخصوص ماضيها، والثاني حاضرها.

في الذكرى المئتين لفك رموز حجر رشيد الذي يعد بمثابة كلمة السر لحل الكثير من ألغاز مصر القديمة وأسس لعلم المصريات، تطلق البلاد حملة شعبية وثقافية لاستعادة حجرها الأشهر من بريطانيا، في مهمة أقرب ما تكون إلى المستحيلة.(Foto: © picture-alliance/ZB)
مع إعلان العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبوليون في 27 سبتمبر/ أيلول 1822، بعد 23 عاما من المحاولات، نجاحه في فك رموز الحجر أخيرا، استطاع العلماء التأسيس لعلم المصريات لفهم تاريخ مصر الفرعونية، وحضارتها الممتدة لأكثر من سبعة آلاف سنة. وحتى هذ التاريخ، كانت اللغة المصرية القديمة ليست سوى نقوش ورسوم مبهمة فى البرديات وعلى جدران المعابد والمسلات، لا يستطيع أحد فك طلاسمها الغامضة، على اعتبار أنها لغة قديمة طالها الاندثار، لا يتحدثها أو يكتبها أحد في مصر الحديثة.مع إعلان العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبوليون في 27 سبتمبر/ أيلول 1822، بعد 23 عاما من المحاولات، نجاحه في فك رموز الحجر أخيرا، استطاع العلماء التأسيس لعلم المصريات لفهم تاريخ مصر الفرعونية، وحضارتها الممتدة لأكثر من سبعة آلاف سنة. وحتى هذ التاريخ، كانت اللغة المصرية القديمة ليست سوى نقوش ورسوم مبهمة فى البرديات وعلى جدران المعابد والمسلات، لا يستطيع أحد فك طلاسمها الغامضة، على اعتبار أنها لغة قديمة طالهمع إعلان العالم الفرنسي جان فرانسوا شامبوليون في 27 سبتمبر/ أيلول 1822، بعد 23 عا الاندثار، لا يتحدثها أو يكتبها أحد في مصر الحديثة.

الفرز والجدولة والتصنيف والحفظ، هي الأدوات على خلفية من العنف والإخضاع، وبمحصلة من ترسيخ التفوق الغربي، فالمعرفة دلالته ومبرر لاستحقاقات لاحقة. وجدت الأنثروبولوجيا خلاصها سهلاً، بمراجعة أدبياتها وتنقيحها من العنصري، وتأطير مستقبلها داخل حدود النسبية الثقافية، وكذا توسيع حقول دراستها لتشمل المجتمعات الغربية أيضاً. هكذا يصبح الجميع متساوين أمامها. إلا أن المتحف لم يجد طريقه معبّداً إلى التوبة. فالمقتنيات/ الغنائم في قاعاته، دليل الجرم الأول، ما زالت إشارة إلى استمرارية اقترافه. والتخلي عنها وإرجاعها إلى حيث تنتمي، يعنيان إغلاق المتحف.

طرق متنوعة للتعامل مع عقدة الذنب وإرث الكولونيالية 

يتعامل المعرض البريطاني الحالي عن الهيروغليفية، مع عقدة تأنيب الضمير تلك، بعدد من الاستراتيجيات. أولاً الاعتراف، فيخصص ركناً للإقرار بفعل الاستيلاء، كأساس لمُلكية الحجر، وذلك بتأريخ السياق العسكري لاكتشافه ولتناقله من يد إلى يد، تحت تهديد المدافع. في الوقت ذاته، يشتبك القائمون على المعرض مع السردية الفردية والتنويرية، التي تنسب الاكتشاف الكبير، كغيره، إلى عبقرية شخص بعينه، وعلى أسس العقلانية والتحرر من التقاليد والفكر الخرافي لصالح وسائل المعرفة الحديثة.

زاهي حواس عالم آثار، وعالم مصريات مصري، ووزير دولة سابق لشؤون الآثار. الصورة ا ف ب
حجر رشيد لم يغب يوما عن الضمير المصري، ويبدو أن هذا كان مبعثا للمطالبة في استعادته في ضوء احتفال الأوساط الثقافية والشعبية المصرية بمائتي عام على فك رموزه، باعتباره من أبرز وأهم رموز الحضارة المصرية القديمة الموجودة خارج البلاد. ولهذا الغرض سافر عالم المصريات ووزير الثقافة الأسبق زاهي حواس إلى العاصمة البريطانية لندن في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي من أجل التفاوض مع المتحف البريطاني حول هذا الشأن.

 

فمع الإقرار بالدور المركزي لشامبليون في فهم اللغة المصرية القديمة، يقدم المعرض تاريخاً أكثر تشابكاً ولا يتحرك في اتجاه واحد، مضيفاً عشرات الأسماء والتواريخ الفرعية لمحاولة فك شيفرة الهيروغليفية، تضم كتّاباً مسلمين، وتجاراً ورحالة ومزوّرين ولصوصاً ومشعوذين وجنوداً أوروبيين من القرون الوسطى وعصر النهضة وما بعدها، بالإضافة إلى عدد من الباحثين من معاصري شامبليون وسابقيه، ساهموا بشكل كبير في وضع الأسس الضرورية للإنجاز.

 

"الجهد المبذول في محاولة توسيع عدسة المركزية الأوروبية، يشي بنظرة نقدية واستعداد للمراجعة

 

ولأن ذلك كله لا يفي بغرض التكفير عن الذنب الاستعماري، يطعّم منسقو المعرض جنباته بعناصر محلية وأصوات السكان "الأصليين". على سبيل المثال، تقدّم القاعة الأولى نبذة مختصرة عن مدينة رشيد التي ينسب إليها الحجر، مع صور معاصرة لها ولمواطنيها. وتتخلّل الاستشهادات في النصوص التعريفية، اقتباسات من أساتذة مصريين في علم الآثار والمصريات في الجامعات المصرية.

ومن بين المقتنيات المعروضة، كتب عربية تراثية تضم جداول للأبجدية الفرعونية، وكذا مسودات لأول معجم هيروغليفي-عربي، وضعه أول مصري تولى إدارة هيئة الآثار.

 

 

أما في القسم الأخير من المعرض، فتصدح في خلفيته تسجيلات لتراتيل من القداس الأرثوذكسي باللغة القبطية، مع بطاقة تعريفية باسم الشماس المرنم وشرح لدور اللغة القبطية ورجال الدين الأقباط في نجاح مهمّة شامبليون.

أما أكثر عناصر المعرض إرباكاً، فهي بطاقات موزعة إلى جانب المعروضات مع صور لأطفال من مدارس مدينة رشيد، مع إجابتهم على أسئلة عن معنى بعض رموز اللغة المصرية القديمة: "هذه تبدو مثل طائرة هيلكوبتر"، و"هذه كعكة العيد أو شمس" و"هذه خنفساء".

ومع أن هذا الجهد المبذول في محاولة توسيع عدسة المركزية الأوروبية، يشي بنظرة نقدية واستعداد للمراجعة، إلا أنه يظل أقرب للديكور في معظم الأحيان. فالاستشهادات من أساتذة الجامعة المصريين، مثلاً، تظل قيمتها هامشية، فهي مجرد تعليقات أو حواشٍ مقتضبة جداً عن شامبليون، من مصادر غربية بكل تأكيد.

أما صور أطفال المدارس المبتسمين وتعليقاتهم خفيفة الدم، فتضيف لمحة من الفكاهة على المعرض، وتُوظّف جيداً كفواصل للراحة وسط سيل المعلومات المتدفق بين المقتنيات، لكنها من دون قصد تنتهي مع الكثير من عناصر المعرض إلى ترسيخ وضعية "المحليين" في هيراركية المعرفة والقيمة، كما في الماضي بالضبط.

 

شادي لويس

حقوق النشر: المدن 2022 

هذا المقال نشر أولا في صحيفة المدن.

موقع قنطرة ينشر المقال بالاتفاق مع الكاتب وصحيفة المدن.

شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.