أديب المهجر جبران - همزة وصل بين الشرق والغرب
جبران خليل جبران - ماقت التعصب وداعية التسامح

لعل من أثمن مواقفه دفاعه عن الحرية الإنسانية ومقته للتعصب ودعوته إلى التسامح الديني وحربه الشعواء على الإقطاع السياسي والزراعي والديني وتنديده بالطبقية الجائرة. تلك الموبقات التي هدت عافية العرب وأسلمتهم في زمانه لقمة سائغة إلى القوى الاستعمارية. الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة يسلط الضوء لموقع قنطرة على أديب المهجر جبران خليل جبران الذي ملأ العالم العربي أدبا وتمردا وشغلا للناس لم ينتهِ برحيله عن هذه الدنيا.

من غرائب هذه الدنيا -التي لا تنتهي وأعاجيبها التي لا تتعب ولا تني- تفاجؤ الإنسان بأن بعض المناطق -المعزولة في أعالي الجبال أو المشردة في الفيافي والتي لا تعدو عن أن تكون قرى صغيرة في أحسن الأحوال- تصيب من الحظ ومن الشهرة ما لا تصيبه أكبر المدن في الدنيا، وذلك كله بفضل شخصية تولد في تلك المنطقة.

إذ تبدأ مغمورة في أسرة يائسة فقيرة، يتناوب عليها الفقر والجوع والداء العضال، ثم تنتهي تلك الطفولة المشردة سليلة الجوع والعري والمرض إلى كهولة ناضجة تشع علما وعبقرية وعطاء، يجتهد الدارسون في فهم أسرار عبقريتها وفي كيفية قهرها للظروف كما لا يفوتهم أن يدرسوا الظروف الحياتية التي أنتجت تلك العبقرية، فتنال تلك المنطقة الشهرة ويقترن اسمها باسم ابنها الذي غدا شخصية من شخصيات التاريخ الكبيرة.

كذلك كان الشأن مع " بشري " إحدى قرى لبنان المعزولة وكذلك كان الشأن مع فتاها جبران خليل جبران الذي ملأ العالم العربي أدبا وتمردا وشغلا للناس لم ينتهِ برحيله عن هذه الدنيا.

وليس من شأن هذا المقال أن يهتم بالتأريخ لحياة جبران وقد أشبعها الباحثون درسا وتحليلا، ولم يعد فيها ما هو خافٍ على القارئ العربي، إنما يهدف إلى تسليط الضوء على جملة الظروف التي حفت بكاتبنا فأثرت فيه وأثر فيها سلبا وإيجابا ووجدت صداها في كتاباته النثرية والشعرية على السواء.

 

 

ظروف سياسية واجتماعية وفكرية وُلِد فيها جبران

وإذا كان لابد من ذكر بعض التواريخ وتتبع مراحل حياة الكاتب فلخدمة غرض المقال، ذلك أن الإنسان ابن بيئته. وإذا كانت الهندسة التحليلية تعين كل نقطة في الفضاء بفاصلتها وترتيبها -وذلك ما يسمونه بإحداثيات نقطة في مستوى- فكذلك الشأن مع الإنسان فاصلته الزمان وترتيبه المكان لتتشكل إحداثيات الكائن البشري. وأما الفاصلة أي الزمان بالنسبة لكاتبنا فهي العام 1883 وأما الترتيب أي المكان فقرية " بشري " من قرى الشمال اللبناني.

وأما الظروف السياسية السائدة في لبنان في تلك الحقبة وفي الشام عموما فطغيان سَوْرَة الاستبداد العثماني وقد خضعت بلاد الشام لسلطة الأتراك الذين استبدوا بها عن طريق ولاتها، وقد كانت شمس الدولة العثمانية آيلة إلى أفول منذ انهزام أسطولها في معركة " نافرين " عام 1827، وقد كانت أوروبا الناهضة تتهيأ لاقتسام تركة الرجل المريض والحلول مكانه في شرق العالم العربي وفي غربه، ولم يبقَ من العثمانيين وشوكتهم آنذاك غير استبدادهم بالعرب وبطش ولاتهم بهم ومصادرة الحريات بل وإزهاق الأرواح و فرض الإتاوات والضرائب على السكان لدفع رواتب الجيش وإغراق ضباطه في النعيم حتى لا يثور الجيش على الباب العالي وينهي حكمه.

تحمل العرب ذل العثمانيين واضطهادهم بكبرياء وشموخ حتى إذا أشرقت شمس القرن العشرين رأيت العرب في الشام وفي لبنان خاصة يؤسسون حركة قومية تناهض الحكم العثماني واستبداده وتدعو إلى الاستقلال عنهم وتناضل في سبيل ذلك سرا وعلانية وقد انتهى شأن الكثيرين من أحرار لبنان والشام إلى الإعدام شنقا وجرائم السفاح جمال باشا في العالم العربي مشهورة ومدونة.

وما كان وجود العثمانيين في العالم العربي إلا نزولا به في دركات الجهالة والعماء وقد أدت تلك الحقبة المؤلمة إلى انحطاط اجتماعي تميز بالطبقية الجائرة ففئة من الانتهازيين ناصرت العثمانيين وشكلت طبقتها البيروقراطية في الشام كما شكل لفيف من ضباط الجيش فئة مستفيدة من ريع الحكم الجائر ماديا واجتماعيا ولعامة الشعب العري  والخصاصة والموت جوعا ومرضا وقد أزهقت الحريات وكممت الأفواه ونصبت المشانق عوض نشر العلم وطبع الكتب وجعل العالم العربي والإسلامي منارة علم وقطب إشعاع.

 

 

والحق أن الحكم العسكري لا يجلب إلا الوباء الأخلاقي والفكري والاجتماعي لأن العسكر حزمة من الغرائز وقبضة حديدية لا تذيبها شمس أغسطس الحارة، وتلك هي ميزة الحكم العثماني الذي كان حكم سيف لا حكم شورى ودولة جهل لا دولة علم ومدنية ورقي. وقد تسرطنت كل نواحي الحياة بهذا السرطان العام فلحق الحياة الاجتماعية المسخ والتشويه وانحطاط القيم وشيوع الدجل والشعوذة وروح السحر والخرافة.

وأخذت العلاقة بين الرجل والمرأة صيغة الحريم التي تنمي في الرجل الشبقية وتختصر المرأة إلى كائن ذي جاذبية جنسية، وتآمر الإقطاع الزراعي مع الكهنوت الديني، فغدا الدين الرسمي مباركةً للوضع القائم وترسيما له بالنصوص المقدسة وعملا بالقول المأثور " حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم " و" ليس في الإمكان أبدع مما كان " إنها إذاً حقبة مظلمة هيأت العالم العربي بعد قرون من السبات والتقليد والاجترار والاستبداد السياسي إلى الوقوع فريسة للمطامع الأوربية التي اقتسمت عالمنا العربي غنيمة مربحة وزادت من بلائنا وتخلفنا.

نور العبقرية لا يلبث أن ينير الحلكات

هذه هي الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية التي ولد فيها جبران خليل جبران، وقد ذاق ككل الأطفال العرب البؤس والخصاصة والعري في أسرة متواضعة. فالأم معدمة مع طيبتها والأب سكير والإخوة فرائس لداء الصدر، غير أن نور العبقرية لا يلبث أن ينير الحلكات، وترتيب الأقدار يقوى على الظروف فإذا العزيمة لا تهِن وروح المغالبة لا تخمد.

وهكذا سار الطفل جبران في طريق المعرفة فتعلم ببيروت وأقام أشهرا بباريس. ولا شك أن إقامته تلك بباريس قد حسمت مسار حياته بتوجهه إلى الفن والأدب، وباريس كعبتهما، فهي موطن الإلهام وممكن الإبداع ومستودع العبقرية تعج أرضها بعرائس الشعر وحوريات الفن، فعلى أرضها يستقر اللوفر ويجري السين وفي حدائقها المنسقة والمزينة بالتماثيل كتب موسيه وفيني أشعارهما الخالدة.

غير أن الفتى جبران هاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة شأن اللبنانيين في تلك الحقبة هربا من الاستبداد السياسي وقهر الحاجة وتفشي البطالة والجوع والمرض، بحثا عن ظروف حياة أفضل في بلد اتخذ للحرية تمثالا ضخما عند مرفأ مدينة نيويورك، وهو بلد فتح ذراعيه للمهاجرين والمغامرين من كل حدب وصوب فلا مناص من النزوح إليه أملا في غد مشرق وقد استقر جبران مع أسرته في مدينة " بوسطن " أو " باريس أمريكا " كما تسمى.

 

 

وما أن طفق يكتب حتى أحس بالحاجة إلى التعمق في العربية ودراسة علومها والإحاطة بأسرارها لأنه أحس بضعف أداته، وعاد إلى لبنان ليقيم أربع سنوات في بيروت متفرغا لدراسة اللغة العربية والتمكن من اللسان العربي، وفي عام 1908 عاد إلى باريس دارسا للفن على يد النحات الفرنسي الكبير " رودان " وقد حاز في آخر الأمر على إجازة في فن التصوير .

الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة (الحائز على جائزة الاستحقاق من دار ناجي نعمان بيروت 2008).
يكتب الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة (الحائز على جائزة الاستحقاق من دار ناجي نعمان بيروت 2008): "لا يمكن فهم تمرد جبران بمعزل عن الظروف التاريخية التي نشأ فيها فقد كان روحا وثابة وعقلا بحاثا ونفسا طموحة، غير أن بيئته تسعى لأن توثقه بوثاق الرجعية وتشده إلى عفونة الماضي وآصار الحاضر وأثقاله بحبال سميكة فتائلها الإقطاع الزراعي والسياسي والديني، ولهذا صب عليها جام غضبه فاضحا جبروت الحاكم ونفاق رجل الدين وبلادة ملاك الأراضي الذين اصطلحوا على البدن العربي كالسرطان ينهشون لحمه ويمتصون دمه ويجهزون على البقية الباقية فيه".

وللسيدة الأمريكية " ماري هاسكل" فضل كبير عليه في تذليل دروب الإبداع له وذلك باحتضانه والتكفل به بالإنفاق عليه في أمريكا وفي باريس وفي تعريف الأمريكيين به وبفنه وبالمعارض التي أقامتها له، ولا ريب أنها كانت تكن له حبا عميقا بدليل مذاكرتها وما باحت به من حقائق وقد بلسمت هذه السيدة جراحه بعد رحيل أخته وأخيه ثم أمه بداء الصدر فكانت " ماري هاسكل " الأم والأخت والزوجة والصديقة، أبدلته أمنا بعد خوف وسكينة بعد قلق وبلبال وعيشة لا بأس بها بعد خصاصة ومسغبة.

فتفرغ لفنه وأدبه راسما وكاتبا إلى وفاته عام 1931  مخلفا دررا في العربية، جددت وجه النثر العربي بتأجج المشاعر وانطلاق الخيال وحلاوة الأسلوب مع سلاسته وقد استعار جبران كثيرا من مفرداته من الطبيعة ففعلت فعلها في القلوب، بالوقوع على معانٍ بِكر لم تتحقق لكاتب من قبل، وباقتباساته من العهدين القديم والجديد، كما أفاد تمكنه من اللغة الإنجليزية الاطلاع على عيون الأدب الأمريكي والإفادة منه وقد خلف من آثاره باللغة الإنجليزية " المجنون و " النبي " و " السابق"، أما مؤلفاته بالعربية فأشهرها " دمعة وابتسامة " و " الأرواح المتمردة " و " الأجنحة المتكسرة " و" المواكب " و " العواصف " وغيرها.

من طفولة بائسة إلى قدَر أدبي مشرق

فقد كانت حياة جبران إذاً حياة اضطراب و ترحال استهلها بطفولة بائسة معدمة في كنف أسرة يتناوب عليها الجوع والداء الذي ذهب بأفرادها، وأما الأب فمدمن خمر تارك لواجباته، وحياة اجتماعية متفسخة تعفنت فيها جميع القيم وتنقل بين لبنان وفرنسا وأمريكا بحثا عن ظروف مثلى للعيش والإبداع.

غير أن ترتيب الأقدار كان في صالح جبران فقيض له السيدة "ماري هاسكل" التي احتضنته واحتضنت فنه وأدبه. ثم اشتراكه في تأسيس الرابطة القلمية عام 1920 مع لفيف من أدباء المهجر كميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ورشيد أيوب ووليم كاتسفليس وأمين مشرق

وأمين الريحاني ونسيب عريضة وغيرهم، كانت تلك الرابطة تجدد في الأدب العربي شكلا ومضمونا وتكتسح العالم العربي حاصدة الإعجاب والتأييد من جماهير القراء العرب وفي مجلتها كتب جبران ونشر شعره ونثره، وبفضلها عُرف في المشرق والمغرب.

فلا يمكن فهم تمرد جبران بمعزل عن الظروف التاريخية التي نشأ فيها فقد كان روحا وثابة وعقلا بحاثا ونفسا طموحة، غير أن بيئته تسعى لأن توثقه بوثاق الرجعية وتشده إلى عفونة الماضي وآصار الحاضر وأثقاله بحبال سميكة فتائلها الإقطاع الزراعي والسياسي والديني، ولهذا صب عليها جام غضبه فاضحا جبروت الحاكم ونفاق رجل الدين وبلادة ملاك الأراضي الذين اصطلحوا على البدن العربي كالسرطان ينهشون لحمه ويمتصون دمه ويجهزون على البقية الباقية فيه.

ثم أن حياة أسرته ذاتها المترنحة بين انحراف الأب وعجز الأم ومرض الإخوة وقهر الظروف عمق في نفس جبران مشاعر الحقد والكراهية للظروف التي تحاول أن تغتال فيهم الروح الإنسانية والكرامة البشرية وهو نفسه في حياته كان مثالا للتذبذب والاضطراب، فمن حياة من غير أسرة إلى عشرة بغير زواج مع "ماري هاسكل" إلى تناول المخدرات لتناسي الجرح وقهر الزمن وتسلط القدر الذي عمق في نفسه مشاعر الإحساس باليتم، إلى الثورة على السماء التي لا تبالي بعذاب المعذبين والتي تتواطأ بالصمت واللامبالاة و كأنها بكماء خرساء، وقد تشفى جبران منها بإنكارها والتعالي عليها لأنها لا تفعل شيئا لتغيير الواقع فتفضح المتدين المنافق وتغتال السياسي المستبد وتصيب بالشلل الإقطاعي الذي ينمي ثروته من امتصاص دماء الفلاحين واستغلال عرق الجبين.

 

 

وهناك شيء لا يفوتنا إغفاله وهو نظرة جبران إلى المرأة تلك النظرة التي لا تختصر المرأة في الجاذبية الجنسية وتلقي بها دمية في مخدع الرجل ولا يفوته أن يعيرها بقصورها وبحيضها وهي نظرة العربي اليوم إلى المرأة، فعلى الرغم من مشاعر الود التي احتفظ بها جبران لماري هاسكل التي وجد في أحضانها الدفء والرعاية والحب إلا أنه بعقله النافذ أدرك أنها ربما مودة أملتها ظروفه البائسة هو وإشفاق ماري عليه وهذا ليس بحب حقيقي.

فاتجه بحبه نحو امرأة أخرى هي  "ماري إلياس " أو " مي زيادة " تلك الفلسطينية ثم اللبنانية والمقيمة بمصر، صاحبة الحس المرهف والخيال الجامح والقلم السيال والذكاء الخارق وصاحبة الصالون المشهور وقد كانت تتألق فيه يوم الثلاثاء فتغدو أشبه بالمصباح يحوم حوله الفراش، وما الفراش إلا نوابغ مصر في ذلك الزمان كعباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وقاسم أمين وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي ومحمد عبده وغيرهم. وقد وجد فيها جبران المرأة الحقيقية التي ظل يبحث عنها ويهيم بها، امرأة غير نساء الحريم بل إنسان من لحم ودم وروح و كيان متميز وفردية مستقلة، ليست ظلا للرجل ولا تابعا له، وقد بادلها مودة بمودة رغم البعد، فلم يرها ولم تره حتى فرق الموت بينهما برحيله هو ثم التحاقها بشاطئ العدمية بعده.

شطط جبران ومغالاته

وربما أمعن حبران في ثورته وفي تمرده وربما بتأثير من المخدر فتوهم نفسه بوذا أو زرادشت يسوق الحكم ويلقي بالمعاني البكر فشط أحيانا عن الصواب وموقفه من الأسرة فيه شطط ومغالاة فهو يقول في العواصف: "إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار فإن شئت أن تتحرر طلق امرأتك وعش خاليا". وهو في بحثه عن المعاني ونبشه في بطون الألفاظ وبحثه عن اللباب يغالي في تمرده وفي مواقفه مسفها القيم والمثل العليا معتبرا إياها جسدا بغير روح أو جثة محنطة من بقايا التاريخ فهو يقول في العواصف: "قلت أؤمن بالله وأكرم أنبياءه وأحب الفضيلة ولي رجاء بالآخرة. فقال: هذه ألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك، أما الحقيقة المجردة فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك ولا تكرم سواها ولا تهوى غير أميالها ولا رجاء  لك إلا بخلودها، منذ البدء والإنسان يعبد نفسه ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله وأمانيه فتارة يدعوها البعل وطورا المشتري وأخرى الله".

اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة