ماكرون والإسلام.. أزمة دولة لا أزمة ديانة

يغازل ماكرون، في لعبة مكشوفة، أنصار اليمين واليمين المتطرف، بإشعال الموضوعات الشائكة. فالإسلام بمثابة حائط قصير، يستطيع من خلال الهجوم عليه، تعويض التدني الكبير في شعبيته. بهذا الهجوم، يصطاد الرئيس عصفورين بحجر واحد، فعلاوة على استجداء أصوات المتطرفين، يعمل الرجل على تصديرالأزمات التي تحاصر فرنسا. تعليق محمد طيفوري لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : محمد طيفوري

عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطلع الشهر الجاري، لتحريك عش الدبابير من جديد، بتصريح مستفز؛ خارج سياق الكلام، اعتبر فيه "أن الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم، ونحن لا نرى ذلك في بلادنا فقط. إنها أزمة عميقة مرتبطة بالتوترات بين الأصولية، وعلى وجه التحديد المشاريع الدينية والسياسية، نراها في كل العالم، وتؤدي إلى التشدد حتى في البلدان التي يعتبر الإسلام فيها دين الأغلبية".

استرسل الرئيس في خطاب ذكر فيه الإسلام؛ بشكل مباشر أو غير مباشر، أكثر من 40 مرة، بعدما وضع نفسه في موقع المفكر الإصلاحي للحالة الإسلامية، ليس فقط داخل فرنسا، وإنما في عموم أوروبا وبقية العالم، محتكرا الوصف والتشخيص وحتى اجتراح الحلول. فقد أعلن عزم فرنسا محاربة ما أسماه "الانفصالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام مواز، وإنكار الجمهورية الفرنسية"، وهي وفق تحديد ماكرون "أيديولوجيا تدعي أن قوانينها يجب أن تعلو على قوانين الجمهورية".

سوء فهم كبير بين الإسلام وقيم الجمهورية ورحلة بحث عن "إسلام فرنسي"

حُمى الإسلام في فرنسا، لم تكن وليدة فترة حكم الرئيس إيمانويل ماكرون، فقد سبق للرئيس الراحل جاك شيراك أن شكل "لجنة ستازي" عام 2003. وكانت ضرورة حظر الرموز الدينية في الفضاء العام، من بين أهم توصياتها، في قرار ظاهره "حماية اللائكية"، وباطنه سياسة عنصرية إقصائية؛ مغلفة بشعار التسامح والاندماج وقيم المواطنة والجمهورية.

لم يتأخر ماكرون في الدخول على الخط، بعدما صار الخوض في الإسلام وقضاياه سنة مؤكدة، على كل رئيس جديد يدخل قصر الإليزيه. فبعد ثمانية أشهر من حكمه؛ وبالتحديد في فبراير (شباط) 2018، أعلن الرئيس الشاب عن مساعيه لإزالة اللبس أو ما يعتبره سوء فهم كبير بين الإسلام وقيم الجمهورية، مؤكدا أنه "اعتبارا من الخريف سنوضح هذا الوضع عبر منح الإسلام إطارا وقواعد، ستضمن بأن يمارس في كل أنحاء البلاد طبقا لقوانين الجمهورية، سنقوم بذلك مع الفرنسيين المسلمين ومع ممثليهم".

 

استنكر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف التصريحات الأخيرة الصادرة عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي اتهم فيها الإسلام باتهامات باطلة لا علاقة لها بصحيح هذا الدين الذي تدعو شريعته للسماحة والسلام بين جميع البشر حتى من لا يؤمنون به.

وأكد https://t.co/c4jsBMvSTM pic.twitter.com/IzfzdP0PMY

— samaworld.com (@SamaworldC) October 3, 2020

 

تعزّزت هذه المساعي بإصدار معهد مونتاني، بداية شهر سبتمبر (أيلول) 2018، تقريرا حول الموضوع أعده الأكاديمي حكيم القروي؛ مستشار الرئيس في قضايا المسلمين بفرنسا، بعنوان "صناعة الإسلاموية" (la fabrique de l’islamisme) الذي تلقى مسلمو فرنسا مقترحاته بالاستغراب، وتوصياته بالكثير من الاستهجان.

عاد الرئيس لإثارة النقاش بشأن الإسلام والجالية المسلمة في فرنسا، في شهر فبراير(شباط) الماضي، على بعد أسابيع قليلة من الانتخابات البلدية. في لقاء بمدينة مولوز؛ إحدى معاقل الجبهة الوطنية في شمال شرق البلاد، حيث كشف عن جملة من التدابير، تروم هيكلة الحقل الديني الإسلامي في فرنسا، مقدما معالم استراتيجيته الجديدة، ضد "الانفصال الإسلامي"، الذي يتعارض مع قيم الحرية والمساواة وقيم الجمهورية ووحدة الأمة الفرنسية.

استعاد ماكرون هذه الخطة؛ في تصريح الأخير، بنفس هجومي هذه المرة، مؤكدا أن ولادة "الإسلام الفرنسي" ستكون على يديه، بعدما باءت جهود الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدار 30 عاما بالفشل. فالمصطلح؛ في حد ذاته، ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عام 1990؛ مع الرئيس فرانسوا ميتران ووزير داخليته بيير جوكس، الذي شكل حينها "مجلس تفكيري حول إسلام فرنسي" (CRIF).

 

 

يقول الرئيس ماكرون إن القانون الفرنسي يجيز توجيه النقد والإساءة والرسوم الكاريكاتورية للأديان. وهذا موقف متطرف ويفسر منحى خطابه ضد الإسلام وليس التطرف تحديدا. وهو موقف يفتقد للحكمة ويشجع التيارات المتطرفة بكافة أطيافها. https://t.co/Htvo6xDrNM

— خالد الدخيل (@kdriyadh) October 24, 2020

 

 

بعيدا عن مضمون تصريحات ماكرون، وما رافقها من إدانة واستهجان، في الأوساط الإسلامية الرسمية والشعبية على حد سواء، رغم ما تحمله من وجاهة في بعض الجوانب؛ ولنا أمثلة عن ذلك، في المشاريع الإصلاحية التي شهدها العالم العربي والإسلامي، خلال القرنين الماضيين. يبقى السؤال مشروعا عن خلفيات ودواعي الهجوم؟ ولماذا جاء في هذا التوقيت تحديدا؟

الإسلام وقود المعارك السياسية

تماهى الكثيرون؛ فرنسيين وأجانب، مع تصريح ماكرون استنكارا وشجبا وتنديدا، لكن أقلية استطاعت قراءة الكلام، ضمن سياق الإعلان عن نتائج استطلاع للرأي، أظهر أن زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، مارين لوبان ستكون منافسة الرئيس، لو أجريت الانتخابات الرئاسية حاليا. وذهب ذات الاستطلاع أبعد من ذلك، حيث توقع فوزها بالرئاسة في الجولة الأولى من الانتخابات.

يغازل ماكرون، في لعبة مكشوفة، أنصار اليمين واليمين المتطرف، بإشعال الموضوعات المزعجة في البلاد. فالإسلام بمثابة حائط قصير، يستطيع من خلال الهجوم عليه، تعويض التدني الكبير في شعبيته. ويتوقع أن تزداد عنصرية الرجل مع اقترب موعد الانتخابات، فقد سبق أن هاجم "الإسلام السياسي"، واستخدم مصطلح "الإرهاب الإسلامي" السنة الماضية في زيارته لمصر.

بهذا الهجوم، يصطاد الرئيس عصفورين بحجر واحد، فعلاوة على استجداء أصوات المتطرفين، يعمل الرجل على تصدير الأزمة أو بالأحرى الأزمات التي تحاصر فرنسا، بالتأكيد على أن الإسلام مصدر مشاكل العالم بأسره، ولفرنسا التي تضم أكبر جالية إسلامية في أوروبا؛ حوالي ستة ملايين مسلم، نصيبها الأوفر. هكذا ينقلب فشل السياسات الداخلية، معبر عنها باحتجاج السترات الصفراء، والأزمة الاقتصادية الخانقة جراء تفشي وباء كورونا، وإفلاس السياسة الخارجية في مالي وليبيا وسوريا، إلى مجرد انعكاس لأزمة "الإسلام"!

 

 

تجاوز ماكرون في توظيفه للإسلام حدود المشاكل والأزمات الداخلية، نحو معركة إقليمية مع تركيا، التي اصطدمت مع باريس في أكثر من ملف (ليبيا واليونان ونيجريا...)، وشرعت منذ سنوات في مزاحمتها داخل مستعمراتها بإفريقيا. يسقط هذا السطحية والعفوية عن كلام الرجل، لكونه ترجمة لتحركاته السياسية في المنطقة بدعم إماراتي في الكواليس. فأبوظبي راعية القوة الإسلامية الناعمة والتنويرية التي يعول عليها لـ"مراجعة الإسلام" ورأب الصدع والشرخ التاريخي بين الإسلام والغرب، خاصة في ظل توترات عالمية على أكثر من صعيد، يمكن أن تؤثر في الدور الاستراتيجي لفرنسا.

علْق جون بولتون؛ مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في إدارة ترامب، في كتابه "الغرفة التي شهدت الأحداث" على استراتيجية وأسلوب تفكير ومقاربة ماكرون للأمور بقوله: "ماكرون رجل ذكي ويتبع طريقة آيزنهاور الذي كان يقول: عندما تواجه مشكلة لا يمكنك حلها، وسع نطاقها"، وهذا ما ينوي ماكرون القيام به في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بتقديمه مشروع قانون حول الموضوع لمجلس الوزراء، على أن تتم مناقشته في البرلمان، بداية عام 2021؛ أي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2022.

تبقى هذه المساعي محفوفة بالعديد من الأسئلة، من قبيل:

ألا يتجاوز الرئيس مقتضيات قانون 1905 الذي أعلن فرنسا جمهورية علمانية؛ أي دولة محايدة منفصلة عن الديانات؟

ثم هل يحق لفرنسا التدخل في كيفية ممارسة المسلمين لعبادتهم، ووضع تفسيرات خاصة لنصوص دينية؟

ألن يدفع الإسلام المصنوع في فرنسا؛ على مقاس مبادئ الجمهورية، فئات عريضة من المسلمين نحو براثين الجماعات المتطرفة؟

أ لا تحيي فرنسا الإمبريالية الثقافية وتصنع محاكم تفتيش جديدة بهذه الخطوة، في وقت لا تدخر فيه جهدا لنشر وإشاعة الفرنكوفونية على طول العالم العربي؟

 

محمد طيفوري

حقوق النشر: قنطرة 2020

محمد طيفوري كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.