المنصف المرزوقي لموقع قنطرة: كورونا يفاقم المعاناة وسيغذي موجات ثورية جديدة

من مدينة سوسة الساحلية التي اختارها للإقامة، يواصل الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي صبّ جام غضبه على قوى الثورة المضادة، التي يؤكد أنها تواصل الإجرام في حق الشعوب وتجذّف عكس التيار. وفي الحوار التالي مع "قنطرة"، يدير المرزوقي بذكاء مناحٍ وأبعاد كثيرة في شخصيته للإجابة عن التساؤلات الراهنة، فتحدث كطبيب مختص، وكحقوقي وكمثقف وكسياسي وكمواطن، باعثا برسالة أمل للشباب العربي مفادها أن المستقبل ليس للاستبداد. حاوره الصحافي إسماعيل دبارة.

الكاتبة ، الكاتب: إسماعيل دبارة

العالم في ظل كوفيد: جائحة كورونا تتلاعب بمصير البشرية

موقع قنطرة: لنبدأ من حديث الساعة، أي بجائحة كورونا، وتحديدا الموجة الثانية التي تفتك بالآلاف من البشر يوميا. هل أنت مرتاح لطريقة تعاطي العالم مع هذا الفيروس؟

منصف المرزوقي: من الصعب أن يحكم شخص واحد على تعاطي العالم بأجمعه تجاه هذا المرض، لكن لا تنسى أنني أستاذ في الصحة العمومية وهذا تخصّصي، لذلك أنا أنظر للموضوع من زاويتين: زاوية رجل المهنة (طبيب) وزاوية رجل السياسة.

من زاوية المهنة، الإنسانية نست أنّ تاريخ البشرية كله مليء بالجوائح، وفي السابق كانت تلك الجوائح تسقط امبراطوريات وتؤدي الى تغيير نظم اجتماعية، لكن الذاكرة البشرية تنسى هذا. ففي 1380 الطاعون، وفي القرن 19 تفشت الكوليرا، وغالبية تلك الجوائح محيت من الذاكرة البشرية، وظهر وهم في الخمسينيات والستينيات بأن البشرية قضت على الأمراض الجرثومية، أما نحن الأطباء فكنا نعلم أن هذا غير صحيح. بل على العكس، كنا نتوقع ظهور جوائح خطيرة جدا، لأن الاستعمال المفرط للمضادات الحيوية كان يؤدي الى تربية الجراثيم الفتاكة داخل المستشفيات نفسها. لذلك لم أتفاجأ بفيروس كورونا المستجدّ وسيمر ككل الجائحات الأخرى.

على هذه الجائحة أن تعلمنا التواضع على أساس أن العالم ليس لنا فقط، فنحن نتقاسمه مع الشجر والنباتات ومع الجراثيم والفيروسات، فنحن كبشر مجرد جزء من هذه الطبيعة، ونحن لسنا أسياد العلم بل جزء منه.

كرجل سياسي، أقول إنه حصل تخبّط في السياسات وهذا أمر طبيعي، لأن السياسي الذي يواجه جائحة كهذه، عليه أن يحصل على المعطيات، والمعطيات لم تكن متوفرة بل كانت متضاربة ومتناقضة ووجد السياسيون أنفسهم بين خيارات أحلاها مرّ، فإن أغلقتَ البلاد انهار الاقتصاد، وان تركتَه فالناس سيموتون.

كان وضعا صعبا لرجال السياسة، وأحمد الله شخصيا أنني لم أكن في ذلك الموضع الخطير فمن يتحملون هذه المسؤولية هم مساكين فعلا، ومهما فعلوا فسيخطؤون، وبالتالي أنا لا أحمّل كثيرا المسؤولية لرجال السياسة لأنني أعلم ما يمرون به من صعوبات وتناقضات.

المهم في كل ذلك أن نتغلب على هذه الجائحة وخاصة، أن نتعلم منها.

الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي مدليا بصوته. الصورة خاص

قنطرة: فيما يتعلّق باللقاح المرتقب، يكثر الجدل حول غياب العدالة في توزيعه على الامم، قبل حتى تصنيعه. هل تعتقد أن دول الجنوب الفقيرة ستتعلم الدرس هذه المرة، وستخصص مالا وجهدا وامكانيات أكبر للبحث العلمي والطب حتى لا تضل مستهلكة وعالة مدى الحياة على مخابر البحوث الغربية؟

منصف المرزوقي: فيما يخص اللقاح، أعتقد أن هنالك نوعا من الكذب والتدجيل على الشعوب بخصوصه، على أساس أن تصنيعه سيكون قريبا وسهلا، وأنا هنا أحدثك كرجل اختصاص، فأنا أعلم أنّه لا وجود للقاح قريب وبهذه السهولة.

أذكرك أن اللقاح ضد "الايدز" الى الآن لم نجده، ونحن نبحث عن لقاح ضدّ حمى الملاريا، ولم نجده. حتى إن وجد لقاح سريع لفيروس كورونا المستجدّ، فكيف سنتأكد أنه لقاح جدي وليس له مضاعفات على المدى الطويل، لذلك، أنا أحذر من قصة وجود لقاح سيحل المشكل، فالأمر سيتطلب وقتا.

لكنني أريد أن أشير إلى أنه لأول مرة في تاريخ البشرية حصل تضامن وتضافر لجهود الباحثين الذين تقاسموا ووفروا المعلومات، وبالتالي قد نربح بعض الوقت.

أما بخصوص قضية توزيع هذا اللقاح، فمن الواضح أن الدول التي لديها امكانيات هي التي ستواجه أولا هذا الفيروس، وكل ما يقال عن التوزيع العادل هو أمر غير وارد، وأتوقع ظلما وحيفا كبيرا في هذه القضية.

للأسف الشديد، البحوث العلمية لها تكلفة كبرى، وهي تكلفة لا تقدر عليها كل الدول، أنا مع وجود "حوكمة دولية" في انتاج وتوزيع اللقاحات، وهذا غير وارد لأن هنالك أربع أو خمس شركات تتحكم في الأدوية وتفعل ما تريد ويمكن القول إن تلك الشركات أقوى من الدول نفسها.

 

الثورات العربية: الثورات المضادة لن تتمكن من ايقاف عجلة التاريخ

قنطرة: دائما وأبدا تنتصر للثورات العربية رغم النزيف، الذي سببته في كثير من الدول، وتتحدث أيضا عن "موجات ثورية ثانية وثالثة ورابعة". ألا ترى أن فيروس كورونا ضرب تلك الموجات التي اندلعت في لبنان والعراق والجزائر والسودان في مقتل؟

منصف المرزوقي: سؤالك يتضمن شقين، والأول يتضمن اتهاما بأنني مع الثورات العربية. أريد أن أؤكد أن الثورات العربية مع نفسها، وهي متهمة من قبل أصحاب النظام القديم بأنها جلبت الويلات، وأنا أحذر من هذه الحرب النفسية التي تشن من طرفهم، وعليكم أن تشيروا إليهم هم بالبنان، لأنهم هم من دفعوا الشعوب للثورة بفسادهم وظلمهم، ويقودون اليوم الثورة المضادة لمنع هذه الشعوب من التمتع بالحرية، وبالتالي فقد أجرموا في حق الشعوب مرتين. والثورات المقبلة يجب أن تأخذ هذا بعين الاعتبار فهؤلاء الناس لم يستوعبوا الدرس ولن يسمحوا لهذه الشعوب بالتحرر، لكن هذا التحول سيحدث رغما عن أنوفهم، فأنا أؤمن أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، إذ أن 100 مليون شاب عربي بلا أفق لن يقبلوا العيش تحت حكم طغمة فاسدة. ستتواصل الثورات حتى يحدث نوع من التوازن الاجتماعي والطبقي داخل المجتمعات.

الطبقات الحقيرة التي دفعت بالناس إلى الثورة ستدفع الثمن باهظا ولن تتمكن من ايقاف عجلة التاريخ.

بخصوص دور جائحة كورونا فهو يبدو لي غير واضح إلى حدّ الآن، فهذا الوضع سيفاقم معاناة الناس، وسيغذي نهج الثورات أكثر وأكثر، خاصة وأن الشعوب ستلاحظ أن هذه الأنظمة غير قادرة على التجاوب مع هذه الأزمات، وأخشى أن ندخل في مرحلة فوضوية كبرى وخطيرة قد تؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه.

كورونا زاد الطين بلة وفاقم فقر الفقراء وأظهر عجز الانظمة الاستبدادية، ويمكن للأمور أن تنفلت من كل الجهات.

قنطرة: تداعيات كورونا الاقتصادية والمالية والصحية والاجتماعية كارثية بكل المقاييس على جميع الدول، هل ترى أولوية للنضال من أجل التحرّر السياسي في زمن الافلاس الاقتصادي والترميم واعادة البناء؟

منصف المرزوقي: كتبت تدوينة موجهة للتونسيين، قلت فيها إننا في حالة حرب، ويجب أن تتوقف الصراعات السياسية، حتى نتمكن من مواجهة تداعيات كورونا، وبالتالي أنا أدعو إلى "هدنة كورونا".

في الوقت الحاضر، يجب أن يتحلى الجميع بقدر من التعقّل، وأن يضعوا أنفسهم بالأساس في مواجهة التداعيات الصحية والاقتصادية للجائحة... لكن على من تتلو زابورك يا داوود، فالكلام الذي يوجه الى الطبقات الحاكمة يبدو بلا جدوى.

مثلا على النظام المصري أن يفهم أن قضية الحرب ضد الاسلاميين والاخوان يجب أن تنتهي، وأن الأولوية الآن للقضية الاقتصادية والاجتماعية، هل يطبق النظام المصري هذا؟ طبعا لا، فهو إلى حد الآن مازال يصدر احكاما بالإعدامات السياسية. التعقّل يجب أن يكون من الطبقات الحاكمة، ولكنه غير موجود وأنا مع ارجاء الصراعات السياسية في كل دولة.

التطبيع مع إسرائيل

قنطرة: توقعت حراكا عربيا مسلما ضدّ التطبيع العلني مع إسرائيل مؤخرا من طرف عواصم خليجية، لكنّ يبدو أن القضية مرت مرور الكرام، فلا تظاهرات ولا ادانات شعبية واسعة كما كان يحصل سابقا. هل ستعلّق الأمر على شماعة كورونا؟

منصف المرزوقي: الشعوب العربية باتت منهكة، إنها منهكة بالفقر وبالثورات، وبهذا الوضع غير الطبيعي، لكن ما في القلوب سيضل بالقلوب، والشعوب تعلم أن هذا التطبيع وقع على صعيد أنظمة غير شرعية وغير محبوبة ولا تمثل شعوبها وبالتالي فهو "تطبيع مزيّف".

أنا رجل سلام وأؤمن بوجود سلام وأن تنتهي هذه الحرب التي تدوم منذ أكثر من قرن ويجب أن نجد حلا سلميا. لكن لا أعتقد أن الاستسلام هو نوع من السلام، هو سلام كاذب ومفبرك وهش وغير موجود في القلوب والعقول ولن يؤدي إلى شيء.

عملية التطبيع الأخيرة هي عملية انتخابية قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمصلحته، وقامت بها بعض الدول الخليجية التي تعلم أنها دول تابعة وبحاجة إلى الحماية الأميركية للبقاء خاصة تجاه إيران، وبالتالي هي عملية سياسية داخلية لا علاقة لها بموضوع الصراع العربي الاسرائيلي. السلام لا يكون الا مع الشعوب، ومع ممثلين شرعيين للشعوب ولن يكون الا بإعطاء الشعب الفلسطيني كامل حقوقه.

قنطرة: مع اندلاع الثورات العربية تنبّأت بأن يمسك العرب زمام أمورهم بأياديهم، لكن وبعد عقد من الزمن، مازال البعض يضع بيضه كاملا في سلة أميركا، وآخرون في سلة روسيا أو الصين، وآخرون يعوّلون على إيران أو تركيا... أي أننا مازلنا أمة بلا مصالح تنهشها القوى الاقليمية كما تريد؟

منصف المرزوقي: أنا أفسر هذا الوضع بأنه بعد انهيار الدولة الوطنية في الخمسينات بفشلها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفشلها في حل القضية الفلسطينية، وفشلها في اقامة فضاء عربي مشترك... أصبحت جميعها دولا تابعة. إذا نحن نتحدث عن أزمة دول تابعة، وفعلا اليوم غالبية الدول العربية تتبع هذا القطب أو ذاك، لكن مرة أخرى أؤكد على أن الشعوب في واد والأنظمة في وادي آخر. فاليوم هنالك طلاق كامل بين أغلب الشعوب وأنظمتها، فالأنظمة تدافع عن بقائها (في الحكم) في حين تدافع الشعوب عن وجودها.

علينا أن نفهم أن الثورات العربية هي ثورات من أجل الديمقراطية، وفي نفس الوقت، ثورات من أجل التحرر الوطني، لأنه بات من الواضح أن هذه الأنظمة المستبدة هي أنظمة تابعة، ونحن للأسف الشديد عدنا إلى قضايا التحرر الوطني بعد أن اعتقدنا أن الأمر يقتصر فقط على فلسطين التي لم تتحرر بعدُ.

هنالك موجات ثورية قادمة، والوضع سيكون صعبا أمام الأنظمة.

قنطرة: تقول إنّ "التاريخ -مثل النهر-له اتجاه واحد، والويل لمن يسبح ضد تياره"، وتتوعد بقايا الأنظمة التي لم تطلها الثورات بالرحيل. ألا ترى أنّك تغرد منفردا خاصة وأن الشعوب حسمت أمرها واختارت الأمن والاستبداد والاستقرار والخبز، على حرية الكلام والفوضى في زمن الجوع؟ أسوق لك مصر نموذجا والجزائر أيضا، اختيار الخليجيين للرخاء الاقتصادي على التحرر السياسي، هزيمتك أنت شخصيا في الانتخابات أمام ممثل المنظومة التي ثار عليها التونسيون... والقائمة تطول!

منصف المرزوقي: هذه نظرة حبيسة الزمن القصير، سأضرب لك مثل الجزائر في الخمسينات، ما بين 1954 و1961... ستجد حينها تساؤلات تطرح: "كيف ستتمردون على الامبراطورية الفرنسية العظمى؟" "من أين لكم كجزائريين مواجهة قوتها؟" "أنظر كيف يذبح الجزائريون بعضهم البعض"، "أنظروا الى فشل ثورة مدينة الجزائر وكيف استطاع الجنرال Jacques Massu اخمادها"... عندما ننظر الى هذا الحيز القصير من التاريخ لن نجد غير الهزائم، ولن نتصور أبدا أن الجزائر ستصبح دولة مستقلة فيما بعد.

هذا الخطاب يذكرني أيضا بما كان يقال لي شخصيا قبل رحيل زين العابدين بن علي عن تونس، وأن له دعما كبيرا من الغرب، وله ترسانة أمنية ضخمة، ومن أين لكم أنتم خمسة معارضين بمواجهته، لكنه رحل في النهاية!

أنا أنظر للتاريخ من الزاوية الكبرى، فأرى متى يُؤخذ المنعطف للتحرر من العبودية أو من الاستعمار أو من الاستبداد، وهذا ما يهمني لأننا سندخل بعدها في معارك شرسة وصعوبات جمّة، وقد نهزم وقد تعود المنظومة القديمة، لكن في نهاية المطاف النهر يتجه إلى البحر. فقط عليكم أن توسّعوا الرؤية وتنظروا إلى التاريخ. هل بقي الاستعمار والعبودية؟ ربما بشكلهما الفج تغيرا ورحلا. هذه الانظمة الاستبدادية التي تعدنا بالأمن مقابل الاستسلام والخنوع، هي أنظمة حسم فيها التاريخ وسترحل. وأنا متفائل بذلك.

أما بخصوص هزيمتي الشخصية أمام مرشح المنظومة القديمة في انتخابات 2014 الرئاسية بتونس، أرجعها إلى أنه تظافر ضدي المال الفاسد والاعلام الفاسد والاحزاب الفاسدة التي شوّهت سمعتي، لكن الأفكار والقيم التي دافعت عنها ستبقى. وستعود الى الساحة طال الزمن أم قصر.تونس تتعثّر

قنطرة: لنتحدث عن بلدك تونس، طالبت بـ"هدنة كورونا" في نصّ يبدو كنداء استغاثة من أجل انقاذ السفينة التونسية. البعض فهم تراجعا منك حيال ما تسميه "الثورة المضادة"، وكأنك تعترف بضرورة اشراك القوى المضادة للثورة والاصلاح في المعركة ضد الجائحة. هل هذا التقييم صحيح؟

منصف المرزوقي: لا أبدا، أكرر مرة أخرى، إن قوى الثورة المضادة ارتكبت ضد الشعب التونسي جريمتين، جريمة أولى تتمثل في دفعه الى الثورة فبن علي نهب 20 مليار دولار، ودفع بالبلاد الى الافلاس بعد أن باتت تعيش تحت التعذيب والرعب والفساد، مما دفع بالشعب للخروج الى الشارع، وأزلامه يقومون الآن بالثورة المضادة لمنع الشعب من الحرية، فهؤلاء الناس مجرمون مرتين.

أكبر خطأ ارتكبناه وارتكبته أنا شخصيا، هو التسامح مع هؤلاء الناس واعتقد أن الثورة المقبلة ستحسم في الثورة المضادة، وبطبيعة الحال أنا كنت ومازلت ضد اي نوع من العنف أو الاستئصال العنيف، لكن على القانون أن يردع هؤلاء.

كان من المفروض أن يصوت البرلمان على قانون تحصين الثورة (العزل السياسي) وللأسف الشديد هذا لم يقع وها نحن نرى تبعاته الآن.

بالتالي أنا لا اتحدث في مقترح "هدنة كورونا" مع الثورة المضادة ومن يمثلها، أنا أتحدث مع من يحكمون تونس الآن وهم أبناء الثورة، رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، أريدهم أن يتحدوا وأن يعملوا يدا واحدة وأن يقدموا للشعب صورة مفادها أن في قمرة القيادة ضباطا يسوقون الباخرة متوحّدين وواعين. وعلى الشعب أن يلتف حول هذه القيادة حتى نعبر الأزمة، وحينها يمكن العودة للصراعات والخلافات السياسية.

قنطرة: جرائم بشعة هزت تونس مؤخرا وأعادت الجدل حول ضرورة تطبيق حكم الاعدام، لكنك عارضت تلك النداءات. هل تعتقد أن المجتمعات المسلمة مؤهلة الآن لخوض نقاشات والحسم في أحكام سماوية باتّة؟

منصف المرزوقي: يعاب عليّ في حملتي الانتخابية موقفي من قضية المساواة في الميراث، فالناس يعتبرونني انسانا مبدئيا وتساءلوا كيف لتقدمي وحقوقي أن يعارض قانون المساواة في الارث.

كان ردي طوال الوقت: يا اخواني، نحن الآن في فترة اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية، هل نحن اليوم في حاجة إلى مثل هذا النقاش؟ خاصة وأنني كنت اعرف أن الباجي قائد السبسي (الرئيس التونسي الراحل الذي طرح قانون المساواة في الارث) كان يريد أن يبحث لنفسه عن شرعية بورقيبيّة (نسبة الى الحبيب بورقيبة) ويريد أن يحوّل وجهة النظر عن القضايا المصيرية التي فشل فيها تماما، فجاء بهذه القضية، وقلت إنني ضد طرح هذا الموضوع أساسا، لأنه سيؤدي الى معركة بين التونسيين، لا هي ضرورية ولا هو أصلا وقتها المناسب.

نفس الأمر بخصوص قضية الاعدام، نحن الآن في وضع بالغ الحرج، ولا يجب طرح هذا الموضوع الذي طُرح من قبل عدة مرات، وجميعنا استمع الى حجج خصومه، ولا أحد اقتنع بفكرة الآخر، بسبب خيارات ذاتية وفكرية. هذا ليس وقتا مناسبا، والباخرة تكاد تغرق من هول التحديات التي نعيشها صحيا واقتصاديا. لنوحد صفوفنا ونترك هذه المشاكل الخلافية جانبا في المرحلة الحالية، ثم لنا عودة اليها.

إننا نحتاج وحدة وطنية صماء لمواجهة الجائحة وتداعياتها، ثم لكل حدث حديث.

قنطرة: بعد تجربتك في المعارضة والحكم، ما هي العُصارة التي خلصت اليها، ويمكنك منحها لشباب تائه ومغيّب.. بعضه حالم بالهجرة إلى أوروبا وبعضه حالم بالانخراط في صفوف الاجرام والتطرّف؟

عُصارة تجربتي هي كالآتي: أنا أؤمن أن الله خلق الداء والدواء، وأن العالم يتضمن قوى تهدم وتدمّر، وقوى أخرى تخلق وتبدع. القوى التي تدمّر تصدر الكثير من الضجيج وهي جلية، على شكل حروب ودمار نراه على التلفزيون يوميا، لكن وراء كل ذلك دائما هنالك قوى خلاّقة خفية وراء الستار وهي صامتة.

سأعطي مثالا كطبيب، في حادث سير، سترى على الطريق الدم يسيل ستسمع تأوهات الضحية، لكنك لن ترى عمليات كيمياوية في جسده، ولن ترى تخثر الدم ومحاربة الجراثيم. تماما في مجتمعاتنا، نحن لا نرى سوى الواجهة حيث تنشط قوى الخراب والدمار، في حين أن وراء الستار قوى خلق وابداع لولاها لانهارت المجتمعات.

أقول للشباب، انخرطوا في الزمن الطويل، نحن كبشر مجرد حلقة في سلسلة طويلة وكونوا جديرين بآبائكم، وكونوا جديرين بأحفادكم، وعلينا أن نقتنع أنه مهما ارتكبنا من أخطاء فنحن شيئا فشيئا نتقدّم ونضيف، ويجب أن تكونوا جزء من الاضافة وجزء من الحل لا جزء من المشكل. من السذاجة أن تؤمن بأنك قادر على تغيير العالم، لكن من الاجرام ألاّ تحاول ... حاولوا أيها الشباب تغيير هذا العالم مهما بدت لكم الفكرة ساذجة أو مستحيلة أو خرافية. تلك هي قناعاتي خلال حياتي وستضل بعد مماتي.

 

أجرى الحوار إسماعيل دبارة

حقوق النشر: قنطرة 2020

إسماعيل دبارة: صحافي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة.