ما يشغل بال الديمغرافي العجوز في أوروبا بخصوص الهجرةالتداخل الثقافي في كندا نموذجا للدنمارك
كندا هي مثال ساطع على حقيقة أن الادعاء بأن "المجتمع متعدد الثقافات" لا يمكن أن ينجح هو مجرد هراء رهيب. يجب أن يتعلم المنظرون الأوروبيون الذين يرفضون مصطلح المجتمعات متعددة الثقافات شيئا من التجربة الكندية.
منذ تسعينيات القرن العشرين ظهر نقاش في المجتمعات الأوروبية بين السياسيين ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، حول قضية "المجتمع متعدد الثقافات". مع تصاعد النقاش خلال السنوات الأخيرة بسبب زيادة أعداد المهاجرين واللاجئين، أصبح المصطلح ذاته ملتبساً عند العديد من الأطراف، حول ما يعنيه ويتضمنه المفهوم. إن الإشكالية في أحد أجزائها يكمن في كيفية التفسير.
يمكن أن يعني المصطلح شيئين: أولاً، مجتمع يستوعب الأشخاص من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية مختلفة.
وثانياً، مجتمع يتم فيه منح مجموعات من الناس حقوقاً خاصة بناءً على أصلهم العرقي وهويتهم الثقافية.
إذا كان المرء مؤيداً للمعنى الثاني فهو "متعدد الثقافات" أيديولوجياً. وإذا وجد المرء أن النوع الأول من المجتمع ذا قيمة ويدعمه، فإن المرء يؤمن وفقاً للتقاليد الليبرالية بـ "التعددية".
تمثل التعددية وجهة النظر القائلة إنه من الجيد للمجتمع أن هناك قيماً وهويات ثقافية مختلفة يمكن للمواطنين التعبير عنها في حياتهم الخاصة. ولكن من المهم أيضاً إخضاعهم وتكييف قاعدة قيمة مشتركة لحياتهم العامة، بحسب ما ينظر له عالم الاجتماع الثقافي الدنماركي "مايكل بوس" Michael Böss المتخصص في تاريخ الهوية الوطنية والقومية في جامعة آرهوس الدنماركية.
من المفارقات بسبب هذه التعددية، أن دولة مثل كندا لديها سبب للاحتفال في كل عام بذكرة تأسيسها كدولة متعددة الثقافات. وبما أن المجتمع الكندي ليس "متعدد الثقافات" إلى حد كبير في أي شيء آخر غير هذا المعنى، يجب أن يعرف الجمهور الأوروبي المزيد عن كندا التي تعتبر مثالاً ساطعاً على حقيقة أن الادعاء بأن "المجتمع متعدد الثقافات" لا يمكن أن ينجح هو مجرد هراء رهيب. تماماً كما أنه من الخطأ فهم إعلان كل من "ميركل وساركوزي وكاميرون" للمجتمع متعدد الثقافات على أنه "ميت" بأي طريقة أخرى بخلاف اكتشافهم أن أيديولوجية التعددية الثقافية قد أفلست.
إن الطريقة التي يمارس بها الكنديون "المجتمع متعدد الثقافات" اليوم، واضحة شريطة ألا يتم تأكيد الهوية الثقافية على حساب القيم الليبرالية والديمقراطية، والولاء للدولة والتضامن مع المواطنين الكنديين.
بالمناسبة، ما يُعد هوية ثقافية للكنديين بعيد كل البعد عن الغموض. يذكر "بوس" في مقالة له عن التعدد الثقافي منشورة في موقع جامعة آرهوس بعنوان "عندما يعمل المجتمع متعدد الثقافات" Når det multikulturelle samfund fungerer واقعة خلال زيارته لكندا "في الشهر الماضي، كنت أنا وزوجتي نقف في وقت متأخر من الليل، في محطة ترام في شارع رئيسي في تورنتو، عندما اقتربت منا فتاة صغيرة بشكل عفوي، وأخبرتنا أنها عادت لتوها من الحديقة القريبة، والتي كانت لا يزال يصدر منها موسيقة إيقاعية مرتفعة. قالت الفتاة: أنا قادمة للتو من هناك. يوجد مهرجان أفريقي وأنا أحب الحفلات الأفريقية، مضيفة أن عائلتها أتت من مصر. قلنا إننا كنا هناك أيضاً في وقت سابق من اليوم وأن زوجتي اشترت قلادة جميلة. جعلت بشرتنا الفاتحة الفتاة تستنتج دون تحيز أننا أتينا من جنوب أفريقيا. حتى في وقت مبكر من اليوم، وجدنا أن كونك "أفريقياً" في تورنتو يعد مفهوماً واسعاً جداً. شيء لا علاقة له بلون البشرة، بل بالإعجاب بنوع معين من الموسيقى والطعام. وبالتالي، فإن المهرجان الأفريقي ليس مخصصاً للأشخاص ذوي الجذور البيولوجية في أفريقيا - على الرغم من أنه من الواضح أن معظم المشاركين لديهم تلك الأصول.

كندا المتعددة
إن مبادرة إعلان كندا دولة متعددة الثقافات اتخذها رئيس الوزراء الكندي الخامس عشر الليبرالي الشهير "بيير إليوت ترودو" Pierre Elliott Trudeau في خريف عام 1971. كان الدافع وراء ترودو هو إبعاد الرغبة المتزايدة في الاستقلال لدى دولة "كيبيك" Quebec الفرنكوفونية. لكنه سرعان ما أدرك أن "التعددية الثقافية" يمكن أن تكون مفيدة أيضاً لإدماج المهاجرين في المجتمع الكندي. على الرغم من أنه ينتمي إلى الأقلية الناطقة بالفرنسية في البلاد، إلا أنه لم يدعم حركة استقلال "كيبيك" ودعا إلى سياسة إصلاح تقدمية واستقلال اقتصادي أكبر عن الولايات المتحدة.
في هذا السياق وضع "ترودو" خمسة أهداف للسياسة الكندية الجديدة:
1ـ حماية حقوق الإنسان للمواطنين الأفراد.
2ـ تطوير هوية كندية مشتركة.
3ـ تعزيز مشاركة المواطنين في المجتمع.
4ـ تعزيز وحدة كندا كدولة اتحادية.
5ـ تشجيع التنوع الثقافي في إطار ثنائية اللغة.
في البداية كان لمشروع "ترودو" طابع قومي ليبرالي واضح. كان يهدف إلى تعزيز كندا كمجتمع وطني. لذلك يجب النظر إلى مبادرته في ضوء حقيقة أن الحكومة الليبرالية السابقة لعهده بقيادة "ليستر بيرسون" Lester Pearson قد قدمت بالفعل في عام 1965 علماً وطنياً جديداً - الأحمر والأبيض مع ورقة القيقب - للإشارة إلى أن كندا قد تطورت إلى دولة ذات الهوية الخاصة التي كانت مختلفة عن الهوية "البالية" البريطانية والهوية "المهددة" الأمريكية.
لأكثر من قرن، ولأسباب تاريخية، كان لدى كندا "فسيفساء" عرقية أو "صحن سلطة" أكثر من "بوتقة" كما هو حال المجتمع الأمريكي. أصبح لهذا النمط الآن فضيلة، حيث إنه لا ينبغي استيعاب المهاجرين فقط، بل "الاندماج" أيضاً.
كان على المهاجرين الاحتفاظ بهويتهم العرقية والثقافية وليس تبديلها بالسمات التي تنطبق على الأغلبية. يعتقد "ترودو" أن الاعتراف بالهوية العرقية للمهاجرين سيجعل من السهل دمجهم في المجتمع الكندي.
هذه السياسة التي حظيت بدعم من الأحزاب الكندية المختلفة، تم توسيعها لاحقاً من خلال قوانين تحظر التمييز ضد الأقليات، وتعزز التكامل الاقتصادي والحراك الاجتماعي. وهكذا، في عام 1982 أضاف الدستور الكندي ميثاقاً خاصاً للحريات والحقوق، يضمن حقوق الإنسان الفردية والحقوق المدنية، ويحظر التمييز المباشر وغير المباشر على أساس الجنس، والتوجه الجنسي، والإعاقة، والحمل، أو الخلفية العرقية، والمعتقدات الدينية. ليس هناك شك في أن النضال النشط ضد التمييز كان له تأثير كبير على حقيقة أن المواطنين الذين ينتمون إلى خلفية عرقية وثقافية غير الأغلبية يعيشون في كندا كمجتمع عادل وجيد ومريح، وبالتالي يعبرون صراحة عن سعادتهم بكونهم كنديين.
عدد قليل من البلدان في العالم تبنت ما فعلته كندا، حيث إن العلم أحد أهم الأشياء التي توحد بشكل كبير الكنديين من جميع المناطق، فهو فخر بلدهم متعدد الأعراق والقيم.
كانت مبادرة "ترودو" في الأصل بمثابة بادرة تجاه المجموعات المختلفة في المجتمع الكندي وليس كسياسة للانحراف عن التعددية الليبرالية التي دافع عنها حزبه. ومع ذلك، تطورت التعددية الثقافية في العقود التالية، إلى أيديولوجية قانونية هددت هدفها الأصلي - لتوحيد الكنديين في شعب واحد - لأنها شجعت المهاجرين على التماهي مع مجموعتهم الثقافية أكثر من الانتماء لكندا.
كما فشل الحزب الليبرالي الحاكم في التأكيد للمهاجرين، على أن التحول إلى كنديين أجبرهم على التكيف مع القيم الديمقراطية للمجتمع. ومع ذلك، فإن مشكلة التعددية الثقافية كأيديولوجية يتم ملاحظتها في كندا في السنوات الأخيرة.
على الرغم من أن "ترودو" نفسه كان من الكيبيك، إلا أن الكثيرين اعتبروا منذ البداية أن التعددية الثقافية تشكل تهديداً للوضع الخاص للسكان الناطقين بالفرنسية كواحد من "الشعبين الأساسيين" في كندا، مما يؤدي ببساطة إلى مواءمة الثقافة الفرنكوفونية مع ثقافات الأقليات العرقية المختلفة. لذلك فقد امتنع عن استخدام المصطلح، لكنه يتحدث بدلاً من ذلك عن "التداخل الثقافي".
تُعرَّف التعددية الثقافية رسمياً على أنها "نموذج ترتبط فيه المشاريع الفردية للأقليات العرقية بمجتمع وطني شامل له قيم مشتركة". وبالتالي فإن التعددية الثقافية تعني إظهار الاحترام النشط والانفتاح على الأشخاص من خلفيات عرقية وثقافية ودينية أخرى مختلفة، ولكنه احترام ينبع من فهم الانتماء إلى نفس المجتمع اللغوي والسياسي والوطني.
وهكذا، فإن التعددية الثقافية في الواقع تمثل الموقف والخلفية وراء مبادرة "ترودو" في عام 1971. وعندما يعمل "المجتمع متعدد الثقافات" في كندا بشكل جيد وسلس كما هو الحال الآن، فذلك لأن معظم الكنديين يتشاركون في هذا الرأي، ويرفضون عملياً وجهة نظر الأحادية الثقافية. ويؤمنون بحقيقة أن المجتمع الكندي يمكن أن يعمل بدون ثقافة عامة واحدة، وهوية مشتركة واحدة.
إنه نفس الاستنتاج الذي دفع رئيس الوزراء البريطاني السابق "ديفيد كاميرون" في وقت سابق إلى إعلان نفسه معارضاً لـ "المجتمع متعدد الثقافات" إذا كان المصطلح مفهوماً أيديولوجياً.
لقد أراد ببساطة أن ترى الأقليات العرقية في بريطانيا نفسها على أنها بريطانية أكثر، ولم تكن يعارض التنوع الثقافي في حد ذاته. لذلك فإن الجمهور الأوروبي لديه ما يتعلمه من كندا، ولكن بشكل خاص من "كيبيك" بسبب تعدد الثقافات.