سراب الاستقرار السلطوي: ماذا بقي من الربيع العربي؟

لم يتبقَّ إلا قليل من الحماس الشعبي والآمال التي رافقت الربيع العربي، لكنْ مُحالٌ أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2011 لأن الحراك الثوري أظهر هشاشة دول ما بعد الاستقلال العربية. رؤية لؤي المدهون.

الكاتبة ، الكاتب: لؤي المدهون

تكفي نظرة واحدة على الخريطة السياسية للمنطقة العربية بعد ثماني سنوات على انطلاق الحراك الثوري في إطار ما عُرف بالربيع العربي، لإدراك أنه لم يتحقق الكثير من آمال وتطلعات الشعوب العربية نحو حياة كريمة في كنف الديمقراطية.

فبدلاً من تحقيق أهداف الحراك الثوري التي عبرت عنها شعارات "خبز، حرية، عدالة اجتماعية" تلا انطلاقة الثورات العربية، التي تمثل أكبر حراك شعبي في التاريخ المعاصر للشعوب العربية كثير من الفوضى والدمار.

فالدولة الليبية مُهدَدة بالانهيار، وفي اليمن تصف منظمة الأمم المتحدة الوضع بأنه "أكبر كارثة إنسانية في عالمنا اليوم". وفي مصر يسود هدوء مخيف خادع شبيه بصمت المقابر.

في الوقت ذاته تحولت بعض دول الحراك الثوري إلى ساحة تصفية لحسابات إقليمية. فالأزمة السورية المعقدة أصبحت بعد سنوات من الاقتتال العنيف ذي اللمسة الطائفية حربا إقليمية ودولية بالوكالة، وتحولت الثورة الشعبية ضد الطغيان الوحشي لعشيرة الأسد إلى صراع دولي حقيقي.

فقط في تونس، مهد الثورات العربية، من الممكن أن يتكلل فيها الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية بالنجاح، خاصة لو تمكنت البلاد من التغلب على الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها. لذلك على الغرب أن يواصل الاهتمام بالنموذج الديمقراطي التونسي وتقديم يد العون له في كل الأحوال.

"انتكاسة رجعية وتوقف تام للإصلاحات...الربيع العربي أظهر هشاشة دول ما بعد الاستقلال العربية"

لكن كيف وصلت الأمور لهذا الشكل؟ ولماذا تلاشت الآمال بالوصول إلى الحرية والكرامة، لماذا لم يتبقَّ من حالة الحماسة التي صاحبت الربيع العربي وآمال ملايين العرب في حياة أفضل في كنف الحرية والكرامة إلا القليل؟

هنالك بالتأكيد العديد من الأسباب التي تعود بالدرجة الأولى إلى تبعات الإرث الديكتاتوري وبدرجة أقل إلى ثقافة البلاد العربية.

ولكي نفهم تلك التطورات علينا أن نضع في نصب أعيننا حقيقة أن الثورات العربية لم تتسبب بأزمة الدولة العربية القومية، بل هي في الواقع التي أظهرت مدى عمق هذه الأزمة.

فالسبب الرئيس للأزمة التاريخية هو الفشل الذريع للنخب (العسكرية) الحاكمة في بناء دولة عربية حديثة، إذ تتحكم تلك النخب في مؤسسات الدولة الضعيفة وفي مواردها وتستخدمها في أحيان كثيرة لخدمة مصالحها الشخصية.

وحدات من الجيش السوري الحر قرب عفرين.
اتساع دائرة القتال: الأزمة السورية المعقدة أصبحت بعد سنوات من الاقتتال العنيف ذي اللمسة الطائفية حربا إقليمية ودولية بالوكالة، وتحولت الثورة الشعبية ضد الطغيان الوحشي لعشيرة الأسد إلى صراع دولي حقيقي.

وبالتدريج فكت تلك النخب ارتباطها بمشاغل المواطن العربي البسيط وانفصلت عن هموم أغلبية الشعب، وهو ما أدى إلى تراجع شعور عامة المواطنين والمواطنات العرب بالانتماء إلى دولهم وخاصة في الدول التي ألغت العقد الاجتماعي كما هو الحال في مصر في عصر مبارك.

وعلى هذا النحو أصبحت "جمهوريات الخوف" العربية مع مرور الوقت أضعف اقتصادياً وأكثر قمعا في آن واحد، وفي الوقت نفسه ازداد حضور الأحزاب الإسلامية/ الحركات الإسلاموية كقوة مضادة داخل الدولة، لكن المخاوف من هذه الأحزاب ساهمت أيضاً في كبح جماح التطور الإنساني في دول ما بعد الاستقلال العربية.

وفي هذا الإطار ينبغي أن لا ننسى أن الأنظمة العربية حاربت الطريق الآخر أي تأسيس نظام ديمقراطي مدني وليبرالي، إذ أن الطغاة العرب لم يبالوا كثيرا بالإسلاميين لمعرفتهم بأن الغرب سيفضلهم على الإسلاميين في نهاية الأمر وسيختار "أخف الضررين".

تجميد الإصلاحات بعد نجاحات الثورات المضادة

لا تجود الانتكاسة الرجعية -التي سادت ابتداءً من عام 2013 كثيرا في بلدان الثورات- بحلول لتحديات الحاضر والمستقبل في البلاد العربية.

فتلك التطورات مقلقة من ناحية أن الظروف الاجتماعية السياسية والتي أدت في نهاية المطاف إلى انطلاق ثورات الربيع العربي قد ازدادت سوءا بشكل ملفت للنظر، إذ تشير لغة الأرقام إلى أن شخصا من بين ثلاثة أشخاص من المواطنين العرب هو تحت سن الـ 23. كما يحتاج العالم العربي في العشرين سنة القادمة 50 مليون وظيفة لا علم لأحد من أين يمكن الإتيان بها.

"الرهان على الاستقرار في دولة القمع الفاشلة هو بمثابة رهان على الماء في سراب الصحراء"

ولكي لا ننسى البعد الاقتصادي للثورات العربية يجب التذكير بأن فرض سياسات اقتصادية نيوليبرالية على اقتصاديات الدول العربية من طرف النخب القديمة قبل 2011 ساهم وبشكل أساسي في تهميش الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة.

رئيس مصر عبد الفتاح السيسي.
في قبضة الحكم العسكري والسلطوي: بعد فشل الربيع العربي أصبحت جميع "جمهوريات الخوف" العربية مع مرور الوقت أضعف اقتصادياً وأكثر قمعاً في آن واحد.

وفاقم بشكل خاص فرض إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المشدَّدة في مصر وفي تونس وأيضا فرض برامج الخصخصة غير المدروسة والتفكيك الفعلي للمرافق الحكومية، كل ذلك ساهم في تراجع دور الدولة كجهة مشغّلة رئيسة. وبالتالي يصبح من الممكن بالنظر لهذا التطور تفسير نسب البطالة المرتفعة خاصة في أوساط الخريجين من الشباب العرب.

وبالتالي وفي ضوء ما سبق يمكن الانطلاق من فرضية أن دولا مثل مصر ستصبح في القريب العاجل غير قابلة للحكم إن لم تطبق فيها إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية.

لذلك على الاتِّحاد الأوروبي ربط المساعدات التي يقدمها إلى الانظمة العربية بتحقيق إصلاحات حقيقية، حتى لو كانت صغيرة، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وتحقيق إصلاحات اقتصادية تدعم الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتقوي المجتمع المدني وتساهم في ترسيخ معايير دولة القانون والحكم الرشيد المعروفة دوليا.

وفي الوقت نفسه على الغرب النأي بنفسه عن البحث عن تعاون غير مشروط مع ديكتاتوريات عربية تدعي أنَّها "مستقرة"، لأن الرهان على الاستقرار في دولة القمع الفاشلة هو بمثابة رهان على الماء في سراب الصحراء.  

 

 

 

لؤي المدهون

الترجمة عن الألمانية: صهيب زمال

حقوق النشر: موقع قنطرة 2018

ar.Qantara.de